وفد محلية النواب يتفقد أحد مواقف الغردقة، وتوصية برلمانية بشأن الإيرادات    لتعزيز التعاون الأمني.. وزير الداخلية يستقبل نظيره الفلسطيني    الحكومة تكشف سبب أزمة انقطاع الكهرباء في مصر    موجز اقتصاد اليوم الاثنين.. آخر موعد للتقديم بمسابقة تعيين 18886 معلما مساعدا    حملة توعية بضرورة ترشيد استخدام المياه في الشرقية    استطلاع: 70% من الإسرائيليين يرغبون في إزاحة نتنياهو عن الحكم    بعد إعلان القائمة.. منتخب مصر يستدعي لاعب جديد    نجم الأهلي السابق: موسيماني أفضل من كولر    تقارير: موتا يهدد وجود كييزا في يوفنتوس    نتيجة الشهادة الإعدادية 2024.. تعرف على موعد إعلانها رسميًا في القاهرة والجيزة    موعد إجازة عيد الأضحى المبارك.. وفقًا للأجندة الرسمية والبحوث الفلكية    أجواء رائعة بمطروح وتواجد أعداد كبيرة من المواطنين على الشواطئ.. فيديو    ننشر أسماء الفائزين في مسابقة تحدي القراءة العربي من ذوي الهمم (صور)    بالعلم وصورة مانديلا.. محمد رمضان يدعم الفلسطينيين بعد مجزرة مدينة رفح    مهرجان روتردام للفيلم العربي يعلن لجان تحكيم دورته ال24    سميرة عبد العزيز: أعجبت بأعمال فاتن حمامة من صغري وهذا الموقف سبب صداقتنا    هل يجوز تعجيل الولادة من أجل السفر؟.. أمينة الفتوى تجيب    أحكام العمرة وفضلها وشروطها.. 5 معلومات مهمة يوضحها علي جمعة    بعد حبسه.. القصة الكاملة في محاكمة أحمد الطنطاوي في قضية تزوير توكيلات    محافظ أسوان يفتتح مشروع تطوير قاعة الفريق كمال عامر بمركز عروس النيل    فاران يلمح إلى وجهته المقبلة بعد رحيله عن مانشستر يونايتد    المدعية العامة العسكرية الإسرائيلية: الغارة الجوية الأخيرة على رفح خطيرة للغاية    تجديد حبس المتهمين بالاعتداء على سائق وسرقته فى الجيزة 15 يوما    الحبس 3 سنوات وكفالة 50 ألف جنيه لمدير أعمال الموسيقار الراحل حلمي بكر    في عامه ال 19.. المدير التنفيذي لبنك الطعام: صك الأضحية باب فرحة الملايين    رئيس "أميدا": نعتزم تدشين مركز استراتيجي في مصر لحفظ بيانات الدول الأعضاء    المراكز التكنولوجية بالشرقية تستقبل 11 ألف طلب تصالح في مخالفات البناء    منظمة الأغذية والزراعة: مصر العاشر عالميا في إنتاج زيت الزيتون    المجلس القومى للمرأة يهنئ الدكتورة جيهان زكي لتعيينها رئيسا تنفيذيا للمتحف الكبير    هيئة الرقابة المالية: اعتماد صندوق تأمين العاملين بشركة مصر للأسواق الحرة    42 حزبا سياسيا: مناقشة الحوار الوطنى العدوان الإسرائيلي على رفح يؤكد اصطفاف الجميع خلف القيادة السياسية    قص الأظافر ووضع المعطرات.. دار الإفتاء تحذر الحجاج من ارتكاب هذه الأفعال    حياة كريمة.. تقديم خدمات طبية مجانية لأهالى بيلا فى كفر الشيخ    حياة كريمة.. قافلة طبية شاملة لأهالى قرية "الشهيد الخيري" بالقنطرة غرب    لأصحاب الرجيم.. طريقة تحضير بيتزا توست بالفلفل الرومي    بدء الفعاليات التمهيدية للترويج لافتتاح النسخة الرابعة لحملة «مانحي أمل» في مصر    "متنورش العالي".. صبري فواز يكشف عن نصيحة لطفي لبيب له    إسكان البرلمان توصي بتشكيل لجنة لمعاينة مشروع الصرف الصحي في الجيزة    إعصار مدمر يضرب الهند وبنجلاديش.. مشاهد صادمة (فيديو)    «الشيوخ» يناقش سياسة الحكومة بشأن حفظ مال الوقف وتنميته    يغسل الذنوب.. تعرف على فوائد أداء مناسك الحج    قرارات جديدة بكلية الحقوق جامعة عين شمس 2024    سموحة يغلق ملف الدوري «مؤقتاً» ويستعد لمواجهة لافيينا فى كأس مصر غدًا    وزير الإعلام البحرينى: العلاقات بين مصر والبحرين تتميز بخصوصية فريدة    «الداخلية»: تنظيم حملة للتبرع بالدم بقطاع الأمن المركزي    أكثر من ألفي شخص دفنوا أحياء جراء الانهيار الأرضي في بابوا غينيا الجديدة    رئيس لجنة الشئون الخارجية بالكونجرس الأمريكي: ملتزمون بدعم تايوان على جميع المستويات    وزير الإسكان يتابع مشروعات تجديد أحياء القاهرة الإسلامية والفاطمية بالقاهرة    بينهم مصر.. زعماء 4 دول عربية يزورون الصين هذا الأسبوع    ضبط لصوص سرقوا دولارات من تجار بالسوق السوداء    وزير الصحة يدعو دول إقليم شرق المتوسط إلى دراسة أكثر تعمقا بشأن مفاوضات معاهدة الأوبئة    تحرير 1365 مخالفة للممتنعين عن تركيب الملصق الإلكتروني    لليوم الثاني.. تجهيز 200 شاحنة تمهيدا لإدخالها إلى قطاع غزة عبر معبر كرم أبو سالم    مباريات قوية تنتظر الأهلي بعد التتويج بالبطولة الإفريقية    محمد عبد الجليل: خط الوسط كلمة السر في قوة الأهلي أمام الترجي    جامعة القاهرة تحصد 22 جائزة فى المجالات الأدبية والعلمية بمهرجان إبداع    كولر: لم أستطع الفوز على صنداونز.. لا أحب لقب "جدي".. والجماهير تطالبني بال13    متى عيد الأضحى 2024 العد التنازلي| أفضل الأعمال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرحلة العاشرة في عالم الطبيب النفسي أحمد عكاشة
الطبطبة علي النفس أحيانا وقرصة الأذن في أحيان أخري
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 12 - 2016

سبحت كثيرا بين أمواج الدهشة, عندما ذهبت إلي الحج, وأثناء الوقوف بعرفة غمرني طوفان الاندهاش فقد رأيت أمامي من أشعلت عمرها نيران اشتهاء وارتواء في قلوب عشاقها من رجال القمة ونصف القمة الذين كانوا كالجرذان الآدمية; عندما تركتهم جميعا لتتزوج من كبير له صولجان,ثم ذاب الصولجان ليقف الزوج خلف قضبان المحاكمة بعد أن انزاح عن مركزه, ليطلقها وهو رهين محبسه وكان هو واحد من سادة صناع هزيمتنا في يونيو1967; ومرت سنوات لألقاها علي جبل عرفات. وطبعا ذاب سلطان جمالها. ثم تبخر وتحولت ذكرياتها وتجاربها إلي جمر لاسع في الأعماق; فمضت ترجو العفو والمغفرة من السماء, لكن بقي في خيالي صورة ملاءة سرير زفافها إلي رجل السلطة القوي; فرأيت بعيون الخيال أنها ملاءة مغزولة من جماجم ولحم القتلي من البشر. ثم التقيت بها مصادفة بعد العودة من الحج; فدعتني إلي حفلة زار فضحكت سائلا إياها هل عليك عفاريت ؟ وطبعا قررت الذهاب لأري الفارق بين حفلات زار زمان وحفلات زار هذه الأيام. ولم أندهش حين وجدت كودية الزار المعاصر تطلب ضمن ما تطلب السيمون فيميه متناسية أن الدولار قد ارتفع ثمنه.
وأخيرا طلبت من صديقي أحمد عكاشة سيد أطباء نفس زماننا أن يعالج مطاردة هذه الحكاية لخيالي, ضحك كثيرا وقال الكثير من البشر يملكون القدرة علي الطبطبة علي النفس بمزيد من السباحة في محيط طلب المغفرة من السماء خصوصا بعد أن تلسعهم كرابيج الندم علي ما فات من خطايا, وتقرص آذانهم مرارة الخوف من العقاب, ولعل ذلك ما جعلني أثق في أن إعادة ترتيب كيمياء المخ فيها الكثير مما يجعل قبول الإنسان للواقع ويعمل_ أيضا_ علي تغيير الواقع. ثم قام د. أحمد ليفتح الكومبيوتر الخاص به وأخرج علي شاشته ثلاث صور للمخ البشري, وأشار إلي الصورة الأولي وقال هذه صورة المخ عند المؤمن في لحظة انشغال قلبه بمحبة الله, ها أنت تري أن الفص الجداري يمتلئ بنقاط كثيرة تشير إلي تدفق الدم بصورة متوازنة وكثيفة, وكأنها حركة موسيقية. وأي إنسان منا يبحث دون أن يدري من خلال الإيمان عن تلك الحيوية المتدفقة بصفاء نفسي شديد.
أقول: لعلها اللحظة التي يتحرك فيها الإنسان علي الأرض خفيفا وكأن له أجنحة, عن نفسي مرت بي تلك اللحظات في حياتي كلمحات بسيطة, مرت بي وأنا أجري مع حبيبتي في شارع شامبليون, بعد أن أعلن كل منا للآخر أنه لا حياة له إلا بأن نذوب معا في كيان واحد, ومرت بي وأنا أسمع من إحسان عبد القدوس قرار تعييني, ومرت بي وأنا أخرج من غرفة العلميات, بعد علاج كسر شديد في ذراعي وأفقت لأري زوجتي فرأيت في عيونها بريق من يحب شريك العمر كما هو. ومرت بي تلك المشاعر في لحظة وقوفي أمام الحجر الأسود في الكعبة وأنا أوقف الطواف من أجل أن أتيح مكانا لسيدة تحمل طفلا وليدا تريده أن يقبل الحجر الأسود ليمن الله عليه بالشفاء.
ومرت بي وأنا أستقبل ميلاد أبنائي. إنها لحظة ابتهاج غير تقليدية يصبح فيها الإنسان جزءا من نسيج كوني هائل تضطرم فيه الموسيقي بشكل غير معقول, لعله يتشابه بموسيقي أوبرا تانهاوزر لرتشارد فاجنر حيث تصور تلك الأوبرا رحلة رجل يسير إلي الحج علي أقدامه, فتمر عليه أثناء الرحلة تفاصيل قصة حبه, ويمشي وهو يحلم بالنقاء المطلق.
ويضحك أحمد عكاشه ليقول: هذه حالة المخ البشري لحظة الحب.
ثم أشار إلي صورة أخري للمخ وقال: هذه صورة للمخ في لحظة التعصب أو الجمود الفكري, حين يتوهم أي إنسان أنه يمتلك هو وحده الحقيقة, ها أنت تري أنها صورة لا يسير فيها الدم إلا في خيط رفيع من الذبذبات التي تقول لك ان هذا المخ غير قادر علي الإدراك بصورة متكاملة. وكذلك صورة مخ الملحد التي تراها أمامك الآن, إن الدم الذي يغذي المخ في تلك الصورة يبدو متقطع التدفق.
ضحكت قائلا: أنت الذي تفهم في قراءة صور المخ, ولكني لا أفهم فيها, ولولا شرحك للفروق بين الصور الثلاث لما فهمت, ولكن من المؤكد أن حالة المخ لحظة الشك تقترب من حالة مخ الملحد, وحالة المخ لحظة التعصب تقترب من حالة مخ توني بلير عندما كان يلعب لعبة الإمساك بذيل الرئيس الأمريكي بوش, ويتحول الاثنان في خيالي كدودتين تحاولان أكل عيون البشر عندما قاما بالهجوم علي العراق لتمزيقه بين الطوائف, تماما كالدود الذي ينتشر نتيجة مرض ما في قلب أفريقيا ويصيب البشر هناك بالعمي.
يبتسم أحمد عكاشة ويقول: دعني أعبر لك عن إعجابي بخيالك, ودعني أقول لك أني حين أسمع كلمة إرهاب فأنا أتذكر علي الفور صورة المخ الذي لا يتدفق فيه الدم بإيقاع موسيقي, ودائما أقول لزملائي من أطباء النفس لا تتهموا الشرق الأوسط والإسلام بأنه صانع الإرهاب, فالحقيقة الواضحة من التاريخ أن أي إرهاب معاصر إنما تضخم ونما وكبر من تحت قشرة جلد أوروبا, فهي التي زرعت خلال القرن الماضي قدرا هائلا وملتهبا من التعصب العرقي أو الديني, هذا التعصب الذي يحاول الطب النفسي أن يزيله من أعماق إنسان هذا الزمان, لكن إنسان هذا العصر ينظر للحاضر بغضب ويحاول أن يروض التكنولوجيا لسعادته; فيغرق في المزيد من التعاسة, ويحاول أن يجد تصديقا للذة, فيخرج له شبح الأمراض القاسية من فقدان المناعة المسمي بالإيدز إلي الاكتئاب العميق, إلي عدم الثقة في أن اليوم سيحمل له الخير, كل ذلك يجعله يركع لقشرة التعصب للون أو لقشرة العقيدة الدينية لا إلي جوهر العقيدة حيث التسامح والتفاؤل, وينسي الإنسان المعاصر أن يفعل مثلما يفعل المصري المعاصر ابن البلد حين ينزع عنه الجمود بأن يقول ارمي حمولك علي الله أو كما يقول المسلم الواعي إن الله يغفر الذنوب جميعا أو كما يقول المسيحي المتسع الأفق فليخلصنا الإيمان برسالة المسيح من التجربة الشريرة.
وأتفق مع د. أحمد في رأيه بأن أوروبا وملحقاتها المسماة بالولايات المتحدة اقترحت علي البشرية مبدأ علميا تخونه دائما, وهو القابلية للتعلم, ولكنها لا تتعلم من تجارب التاريخ, ولا تصدق أن الحقيقة لا يملكها أحد.
............................
أضحك وأنا أقول: نسيت أن أقول لك أني رأيت منذ أسابيع تلك السيدة التي أطلقت أنا عنها السيدة راسبوتين, وكانت ترقص بجنون في حفلة زار.
تعجب أحمد عكاشة متسائلا: ولماذا ذهبت إلي حفلة زار ؟ وضحك قائلا: هل عليك عفاريت؟ ضحكت أنا لأقول: أردت أن أري الفارق بين حفلات زار زمان وحفلات زار هذه الأيام.. تصور أن كودية الزار المعاصر تطلب ضمن ما تطلب السيمون فيميه متناسية أن الدولار قد ارتفع ثمنه.
..............................
وفوجئت بالدكتور احمد وهو ينتبه إلي رسالة علي جهاز الكومبيوتر, أخذت اهتمامه فسألته عن أهميتها, أبتسم ليذكرني برنين جرس باب بيته في الزمالك منذ سنوات وكان القادم هو ساعي البريد الدولي الذي قدم للدكتور أحمد علبة مستطيلة من البلاستيك, وطلب منه أربعين جنيها قيمة الجمارك علي تلك العلبة. دفع الدكتور أحمد الأربعين جنيها ويضحك قائلا هل تصدق أني أدفع جمارك علي شرائط كاسيت تضم الامتحان الشهري الذي تجريه مجموعة من الجمعيات العالمية للطب النفسي, وهذه الشرائط تضم خلاصة الجديد والمتطور في الطب النفسي علي مدار شهر, وغالبا ما أسمع هذه الشرائط, ثم أجيب علي الأسئلة المرفقة, وأعيد إرسال الإجابات ليتم تصحيحها بواسطة زملاء لي, ودائما تصل النتيجة في الشهر التالي, وفي الغالب ما أحصل علي درجة امتياز, وهم يكرمونني دائما ويعتبرون إجاباتي هي إجابات نموذجية, ويعممونها علي المشتركين معي في نفس الامتحان. ودائما أرسل لهم الشكر, وأعيد عليهم تأكيدي الدائم بأن هناك أسئلة في الطب النفسي بلا إجابة قاطعة. ومازالت بعض من الأمراض لا نجد لها علاجا فعالا, وأن علينا أن نواصل البحث عن علاج للأمراض التي نجهل أساليب علاجها كأن نحاول البحث عن علاج لقصور الذكاء عند بعض الأطفال, وأن نجد توصيفا دقيقا لكيفية عمل مخ المضطرب ذهنيا, وكيف يمكن أن نقلل من كمية المهدئات لمرضي الاكتئاب الذين يعملون في أعمال فنية رفيعة.
وأضاف د. احمد: لقد غيروا حاليا أسلوب التواصل في هذه الاختبارات وصارت تصلني عبر الإنترنت, لنفس الاختبارات دون دفع جمارك,
..............................
أذكره بالحوار الذي دار بينه وبين الشاعر صلاح عبد الصبور, فقد ذهب صلاح عبد الصبور مرة إلي مكتبه بوزارة الثقافة في منتصف الستينيات, وكان د. ثروت عكاشة قد ترك منصبه وزيرا للثقافة, وتلقي الشاعر الكبير تليفونا من مكتب الوزير الجديد, وذهب إلي لقائه, ليجلس الوزير مع الشاعر صلاح عبد الصبور وليطلب منه أن يحدثه عن أحلامه في تطوير النشر بالوزارة, وتساءل صلاح أمام الوزير قائلا ولكن كيف يمكن أن تسألني بعيدا عن أستاذتي ورئيس هيئة النشر الأستاذة الدكتورة سهير القلماوي؟ فضحك الوزير قائلا إن الجامعة تحتاج إلي د. سهير وستعود إلي عملها كأستاذة للأدب, ولذلك أسألك أنت عن أحلامك؟.
وشعر صلاح عبد الصبور أن الوزير يلعب لعبة غير لائقة معه, فطلب مهلة يكتب فيها خطة واضحة للعمل في هيئة النشر. وما أن غادر مكتب الوزير المذكور وذهب إلي مكتبه في شارع26 يوليو حيث كان مقر عمله في مؤسسة التأليف والنشر, حتي فوجئ بأن المكتب غير موجود, وأن الحجرة التي كان يجلس فيها قد تغيرت ملامحها, وهناك مدير جديد للنشر, وقدم المدير الجديد قرار الفصل لصلاح عبد الصبور.
شعر الشاعر الكبير أن هناك من يلعب لعبة غير محترمة مع المثقفين, وذهب من فوره إلي الأهرام, وكان له لقاء مع الدكتور لويس عوض الذي أسرع بدوره إلي محمد حسنين هيكل الذي قام بإصدار قرار فوري بتعيين الشاعر صلاح عبد الصبور. وعلي الرغم من امتنان الشاعر الكبير لمشاعر الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل إلا أنه شعر بأزمة نفسية عميقة.
أذكر أنه طلبني أنا كاتب هذه السطور, وسألني عن طبيب نفسي يمكن أن يحكي معه. ضحكت قائلا لست وحدك يا أستاذنا المفصول الوحيد, فقد تم فصل د. طه حسين, وعشرات غيره من جريدة الجمهورية. ولم يصدقني صلاح عبد الصبور, ولكنه تأكد من ذلك حين وصله خبر تعيين الشاعر عبد الرحمن الخميسي في شركة باتا للأحذية مستشارا إعلاميا, وأن الكاتب الساخر محمود السعدني خلع حذاءه وقال للخميسي شوف الجزمة دي تساوي كام وتعمل عنها خطة إعلامية إزاي؟ غرق الشاعر صلاح عبد الصبور في الضحك, ولكنه ذهب في المساء إلي عيادة د. أحمد عكاشه, وقال له أنا مكتئب جدا وحاول د. أحمد أن يقدم بعضا من الأدوية المهدئة للصدمة التي تسببت في اكتئاب شاعر في حجم صلاح عبدالصبور, لكن صلاح رفض تناول الأدوية, وقال إن صديقي الوحيد هو الاكتئاب, ويبدو أني رضعت من أمي ترياق الاكتئاب, ولا استطيع أن اقرض الشعر دون هذا المزاج, فقلت له خطورة عدم علاج الاكتئاب قد تؤدي إلي جلطه في القلب, وحدث فعلا انه توفي من جلطه في القلب في سن مبكر بعد الخمسين, وبدأ بعد المقابلة في كتابة مسرحية مأساة الحلاج التي يحكي فيها قيمة استقلال الرأي وقيمة العدل في آن واحد.
وحين أذكر د. أحمد برفض الشاعر صلاح عبد الصبور للدواء وتفضيله أن يحتفظ بأحزانه ليستخدمها كوقود للإبداع, فالدكتور أحمد يقول لي: كان صلاح في حد ذاته معالجا نفسيا للكثيرين بشعره الذي يشبه النبوءات, ولم يكن مخه يعاني من خلل أو تلف في الموصلات العصبية, لكني أردت أن أخفف من صدمة الكرب التي سببها له ذلك الوزير. ودائما ما أذكر أني قلت لصلاح عبد الصبور ما قاله لي وجيه أباظة عن ذلك الوزير حيث عامله جمال عبد الناصر بقسوة هائلة إبان العدوان الثلاثي علي مصر, وأكد لي وجيه أباظة أن جمال عبد الناصر اضطر أن يهين هذا الوزير إهانة بالغة, فصار من هوايات هذا الرجل أن يهين كل من يليه, وكل من يشعر أنه يحتفظ بكرامته مما يسمي في الطب النفسي بالإسقاط وتضارب المشاعر. وطبعا كان د. احمد يسمع لي ويكرر أن من معرفته بجمال عبد الناصر أنه كان عف اللسان مع الآخرين, وأنه لم يكن يوجه إهانة لأحد. وأكرر علي مسامع د. أحمد أني أنا شخصيا تعاملت مع جمال عبد الناصر ومع أشقائه, ولم أجد فيهم من ينطق كلمة نابية, أو يهين أحدا, ولكن لعلها ظروف المواجهة الصعبة التي عاشها جمال عبد الناصر أيام حرب1956, وهي التي قال عنها لشقيقك ثروت لقد فلتنا من العدوان الثلاثي من ثقب إبره.
ويعود أحمد عكاشة ليقول لي إن الإبداع عند صلاح عبد الصبور لم يكن يحتاج إلي تلك الأزمة ليعبر عن نفسه, فهو مبدع من قبلها ومن بعدها, و لابد أنه قد أدرك تلك بشكل خاص كعادة كل العباقرة, ودليل ذلك أنه لم يتدخل في حلها, بل ترك الأمر للويس عوض, وهو من كان يعرف قيمة صلاح عبد الصبور وقدرته علي عرض المسألة علي الأستاذ هيكل الذي كان قريبا للغاية من جمال عبد الناصر, ولابد أن تلك الأزمة قد سافرت في عقل صلاح ووجدانه كشاعر, فمضي يكتب مسرحيته مأساة الحلاج التي بقيت حتي الآن وستظل باقية أكثر من عدد أيام ذلك الوزير الذي اتخذ مثل ذلك القرار الأرعن. ولابد أن تقييم صلاح لتلك الحكاية كلها كان مختلفا, ودليلي علي ذلك أنه لم يكن يؤيد جمال عبد الناصر حتي عام1956, و كتب قصيدته المشهورة هل عاد ذو الوجه الكئيب؟ والمنشورة في ديوانه الأول الناس في بلادي, والتي قيل أنها عن جمال عبد الناصر, ولكنه رفض أن يضعها في ديوانه المكتمل بعد أن مات جمال عبد الناصر, لا لشيء إلا لأن صلاح استوعب تاريخ الرجل ككل, ورفض أن ينضم لموكب آكلي جثث الموتي. ثم يقول دكتور أحمد عكاشه انه إن طبقت المعايير التي وضعتها في كتابي آفاق الإبداع الفني علي صلاح عبد الصبور, ستجد أنه واحد من أنبل العباقرة الذين عاشوا في زماننا, ويكفي أنك دائما تؤكد أن كلمة واحدة قد قتلته, كلمة ممن لا يعلم كيف قاوم صلاح عبد الصبور فكرة تجريد بعض من المعارضين للسادات من الجنسية المصرية, كما أراد وزير الداخلية في ذلك الزمان. إن عيون صلاح عبد الصبور كعيون أي عبقري لم تتوقف أبدا عند أزمة طارئة أو عند مكسب آن, بل كانت عيونه تمتد إلي التاريخ, قديمه وحديثه, وحساسيته كشاعر فاقت حساسية من وقفوا يهللون أو يصفقون لقرارات فصل وعقاب بعض المثقفين الذين اختلفوا مع الراحل أنور السادات.
وأقول: كأني حين قرأت كلماتك عن سمات العبقري الفنان, كان أول من تراءي في ذاكرتي هو صلاح عبد الصبور ثم سيف وانلي, وثم عبدالحليم حافظ, وأيضا كمال الطويل, وأخيرا عمر خيرت. فكل منهم امتلك الإحساس بالاختلاف عن المحيطين به, وكل منهم اطلع علي ما يخص تخصصه من ماض وحاضر بدقة شديدة, بل كان صلاح عبد الصبور لا يترك حتي كتابا إلا وتتصفحه عيونه; حتي ولو كان في الاقتصاد أو تاريخ النقود, وكنت كثير التساؤل له لماذا ترهق نفسك بعلوم لا تتدخل في عملك كشاعر؟ فكان يضحك ويؤكد أن الشاعر باحث عن شكل جديد لإدارة الكون, ولا يمكن أن تدير الكون إلا إن فهمت في الاقتصاد والسياسة.
وحين تحدثت يا د. أحمد عن البيئة الاجتماعية, فأنا أذكر أن صلاح عبد الصبور, كان يبتعد دائما عن الصداقات الركيكة التي لا تضيف, ولست أنسي كيف كان هناك رجل يحترف تجارة الذهب, وكان يهوي أن يجمع في سهراته الشعراء والممثلين, والفنانين, وحاول الرجل أن يوجه الدعوة إلي صلاح أكثر من مرة وبإلحاح شديد, ولكن كان صلاح يعتذر دون أن يجرح الرجل, ويمضي الوقت في سماع الموسيقي الكلاسيك والقراءة, بينما كان هناك العديد من الكتاب والفنانين من يسعون إلي مائدة طعام هذا التاجر. وحين ناقشت صلاح عبد الصبور في ذلك, قال لي لابد أن نكون أكثر حرصا علي الوقت من أن يضيع في التفاهة.
..............................
أضحك قائلا: ولكن هناك من يعتبرون الموهوب كائن مفكوك المخ ويحتاج إلي إعادة تربيط أجزاء هذا المخ.
يقول د. أحمد هناك من يحتاج مخه إلي تربيط, مثلا كلنا شاهدنا فيلم العقل الجميل الذي يصور حياة العالم الذي حصل علي جائزة نوبل في الرياضيات, وهو البروفسير ناش هذا الرجل هو واحد ممن أهدوا لي فرحة شخصية عندما تم شفاؤه لأن الكيمياء انتصرت أخيرا علي هذا الخلل الذي يدمي كثيرا من البيوت. فالمرض النفسي سكين جارح قد لا يراه أحد ولكنه يجعل العديد من البشر تنزف نزيفا لا مرئيا, وتصل آلامه إلي الحد القاتل.
إن مخ مريض الفصام يحتاج إلي كباري صغيرة من الهرمونات أو ما نسميه الموصلات العصبية. وأؤكد للدكتور أحمد أن عبقرية كافكا في الرواية, وموهبة فان جوخ في الرسم, وجنون ريتشارد فاجنر في الموسيقي, كلها كانت نتيجة خلل في الموصلات العصبية فمنحونا هذا القدر الهائل الباقي من الإبداع. وأجده وهو يرد قائلا ولماذا تنسي أن موزار لم يكن ممسوسا بخلل الخيالات ؟ ولماذا لا تذكر أن شكسبير ونجيب محفوظ حافظا علي الإبداع دون أن يقع أي منهما في خلل واضح المعالم بحيث يتطلب تدخلا طبيا لعلاجه؟!
أتساءل: ألا يصيب الطبيب النفسي بعض من آثار ما يعالجه في غيره؟
يضحك د, احمد قائلا: بما أنك كثير التساؤل عن الحالات النفسية وآثارها دعني أحكي لك عن الأستاذ الذي درست علي يديه في لندن لمدة ستة أشهر احد فروع علم النفس التحليلي وهي المدرسة التي أسسها كارل جوستاف يونج الذي أنقض علي ما تركه فرويد من جعل أسباب كل الأمراض النفسية ذات أسباب جنسية, وتطورت مدرسة يونج وصار لها عباقرة يضيفون لها; من أشهرهم هو دكتور هوبسون, رئيس جمعية علم النفس التحليلي في بريطانيا.
وتدربت علي العلاج النفسي الذي ليس له الأهمية الجنسية لفرويد, وكان د. هوبسون يتلعثم وكان مشهورا عنه انه أحسن معالج للتلعثم في بريطانيا فسألته كيف ذلك فقال لي: أحمد, لا يوجد في العالم إلا هوبسون واحد ولا يمكن أن أعالج نفسي!!!!! وقوله هذا يعني أن المهارات والمواهب تحتاج إلي زمن لنصل إلي قدرة تدريب غيرنا عليها.
..............................
كنت قد اتفقت مع د. احمد علي أن تكون الرحلة العاشرة لعالمه في الطب النفسي هي ختام تجولي سواء في ذكرياتي معه أو مع نفسي, ولكن الجديد في هذا المجال مازال يحتاج للمزيد من الرحيل فإلي رحيل قادم في دنيا المحكات أي التوصل إلي ما يقترب من القوانين التي ترسم طريق الخروج من دائرة الإرهاق النفسي, حالما وضاحكا بأن ترقد الكرة الأرضية علي أريكة التحليل أو العلاج فنصل إلي توافق إنساني نحلم به ونتلمس آفاقه. ولكن يا ويلنا إن لم نصل إليه, وعندما أقول ذلك لصديقي احمد عكاشة يقول: لماذا تضن علينا بالثقة في أن البشرية ستصل يوما إلي ذلك؟ فأقول: من نهر تفاؤلك ارتوي يا صديقي ولكن الجفاف يصل إلي حلقي فور قراءة صحف الصباح.
وضحكنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.