تأتيك بعض الكلمات بلسما، تقدم تشخيصا شاملا، ودواءً شافيا، لجسد عليل أنهكه المرض، حتى يكاد المرء يتمنى أن يكتفى بنقل الكلمات كما هى وحسب، ولكن لا بأس - على كل حال- من التعليق عليها، من حين إلى حين، سعيا إلى استلهام الدروس وترسيخ العبر. يوم السبت 26 نوفمبر الماضي، ألقى السيد أحمد أبوالغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية كلمة بعنوان «المشهد العربى الراهن»، أمام الجمعية المصرية للقانون الدولي، بحضور رئيسها الدكتور مفيد شهاب، أحد كبار علماء القانون الدولى ورجاله. شاهدت أحمد أبوالغيط من قبل واستمعت إليه كوزير للخارجية، فى اجتماعات الجامعة العربية، التى كنت أقوم بتغطية أخبارها صحفيا. ولا أنسى كلماته التى قالها فى آخر اجتماع حضره، بعد ثورة يناير بوقت قصير، ردا على أحد الوزراء العرب الذى تساءل عن أحوال مصر. تحدث أبوالغيط وقتها حديثا طويلا، مرتجلا فصيحا، هادئا متأثرا، قائلا برصانة: «أطمئنك يا سيدى بأن مصر لن تسقط أبدا». لا أنسى درجة حماسه وتأثره معا، لكننا كنا وقتها - ومازال بعضنا للأسف- فى زمن تصنيف الرجال؛ إما «فلول» أو «ثوار»، ولا شيء فى المنتصف!. على أى حال.. فى المؤتمر الأخير لجمعية القانون الدولي، بدأ أبوالغيط كلمته بقوله: «إن الجُرح لا يخفي، وأنّات الألم والمعاناة ترتفع من كل ركن تقريباً فى عالمنا العربي، فى واحدة من أكثر اللحظات خطورة فى تاريخنا الحديث. فهى لحظة يشوبها التشويش والبلبلة، ويسود فيها الانقسام، بل التشرذم والتفتيت». أعراض المرض أو الأزمة، يشعر بها كثيرون، لكن لا يعترف بها منا إلا المنصفون. إذ يندر أن تجد اليوم من يقول لك ببساطة: «لا أعرف» أو «لا أفهم». وهاهو أبوالغيط يوضح «أن الكثيرين من المواطنين العرب لم يعودوا يفهمون ما يجري. فهم يُفجعون لرؤية الدمار والقتل اليومى على شاشات التليفزيون. لكنهم كثيراً ما يختلط الأمر عليهم، فلا يميزون الجناة من الضحايا. لا يعرفون من يقتل من ولأي غاية. لا يفهمون لماذا يسيل الدم العربى بهذه الغزارة، لا يعلمون لأى سبب تسقط مدن كانت زاهرة، وتُخرَب حواضر كانت عامرة». وهو يضرب مثالا تصويريا بديعا، قائلا: «إننا فى سعينا لاستيضاح المشهد الراهن، بكل تعقيداته وتداخلاته، فإن حالنا يشبه حال نملة تسير على سجادة هائلة الحجم، فلا تستطيع أن تستبين تصميمها الكلى أو الصورة الكبيرة المرسومة عليها، وإنما تغرق فى تفاصيل صغيرة، جزئية وهامشية»!. تلك إذن هى أعراض الأزمة؛ عدم فهم الصورة الكلية والغرق وسط طوفان التفاصيل، ولكن.. ما هى الأسباب؟.. وما التشخيص؟.. يقول الرجل: «علينا أن نرى الغابة لا الأشجار، والملامح العامة لصورة الواقع لا جزئياته المتداخلة.. (الدولة العربية) فى أزمة.. هذا هو جوهر ما يجري.. ثمة دول تكاد تختفى من على الخريطة، وأخرى يناضل أبناؤها من أجل الحفاظ على كيانها».. وهو يضع تشخيص الأزمة تحت عنوان عريض هو.. «ضعف الولاء للدولة الوطنية». كيف؟!.. يوضح قائلا: اإن القاسم المشترك بين أزمات الدول العربية هو العجز عن صهر الولاءات الأولية، للقبائل والعشائر والمذاهب والمناطق، فى بوتقة وطنية جامعة. فالانفجار الذى نشهده اليوم، فى سوريا والعراق وليبيا واليمن، ليس سوى نتيجة طبيعية لتنازع الهويات. ففى غياب الولاء لعلم الدولة، يطل الانتماء للقبيلة. وفى غياب الانصهار فى الجيش الوطني، تظهر الميليشيات والعصابات. وعندما تُكسر وحدة السلاح، تتعدد البنادق، وتتكاثر الولاءات، وتغرق الأوطان فى الفوضى . وتمتد مصادر التهديد للدولة الوطنية، حسب قوله، لتشمل «من يبشرون بالانتماء للخلافة الإسلامية، وينسبون أنفسهم - زوراً- لها. وجميعنا شاهد ما يفعلونه عندما يتربعون على كرسى الحكم. وكلنا رأينا بأعيننا حقيقة ما يدعون إليه فى الرقة والموصل وسرت؛ إعدامات بالجملة، استعباد للنساء، ترويع للعباد وخراب للبلاد». أولى خطوات العلاج إذن، هى تعزيز الانتماء للدولة الوطنية والحفاظ عليها وسط ظرف دولى وإقليمى شديد الالتباس، لكن الأمين العام للجامعة العربية يضع هنا استدراكا مهما، وما أهمه من استدراك، وهو أن «الانتماء للدولة الوطنية لا يولد من رحم الخوف والرعب من دولة قاهرة.. وكم من دول قامت على الخوف فتهاوى بنيانها بين عشية وضحاها.. لذا فهناك حاجة ملحة لتجديد مفهوم الدولة الوطنية فى العالم العربي.. وعلينا أن نعمل لكى تصير هذه الدولة مقرونة بكل معانى الحكم الرشيد والعدالة.. وأن تكون دولة كل مواطنيها بحق». أخيرا.. وبينما رأى السيد أحمد أبوالغيط، كدبلوماسى مخضرم، أن التنسيق والتحرك الجماعى العربى المشترك، لم يعد فى اللحظة الراهنة ترفاً أو شعاراً، بل ضرورة بقاء، فإن ما نراه نحن هو أن التنسيق مسئولية الأنظمة إن كانت لديها الرغبة فى التنسيق، ولهذا ربما تظلم الجامعة العربية دوما، أما ما يعنينا هنا حقا فهو الوعى العام، للشعوب والحكام معا.. فالنملة يمكن أن ترى من الصورة أجزاءً أكبر، إذا قررت أن (ترتقي) شيئا فشيئا إلى موضع أعلي، أما إذا ما ظلت تنظر تحتها، لا تعترف بقول إلا قولها، تائهة لكن مكابرة، ترسم صورة العالم ومسارات المستقبل من منظور عينها، وحدها، فالخوف كل الخوف عندئذ، من أن تصبح هدفا سهلا لمن رسموا تفاصيل الصورة عن بعد.. فيتم فى لحظات دهسها.. وسحقها!. لمزيد من مقالات محمد شعير