«مقامرة سياسية قاضية» قام بها رئيسا وزراء دولتين أوروبيتين كبيرتين فكانت وبالا على تاريخهما السياسى وعرضت بلديهما لمخاطر وعواقب قد تمتد لفترة طويلة. راهن كل من رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ورئيس الوزراء الإيطالى ماتيو رينزى على تطويع الأدوات الديمقراطية (الاستفتاء) لخدمة ما يريدون والوقوف على أرض أكثر صلابة فى مواجهة خصومهما ولكنهما أغفلا فى الطريق العوامل الكثيرة الأخرى التى قد تتدخل فى تصويت الناخبين فتأتى النتيجة بما لاتشتهى السفن. قامر كاميرون ودفع بالاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى فى وقت مبكر عما كان محددا له فى محاولة لإخراس ألسنة المتشككين المناهضين للبقاء فى الاتحاد الأوروبى والذين كانوا يكسبون أرضية يوما بعد يوم، ولكسب مزيد من القوة تعطيه دفعة فى المفاوضات التى كان يعتزم إجرائها مع الاتحاد الأوروبى حول حزمة من الإصلاحات التى تريدها لندن. ولكن جاء تصويت البريطانيين ب»نعم» للخروج مزلزلا مما دفعه للاستقالة، كما هدد ، وزج بلاده فى اختبار غير مضمون النتائج. بنفس إحساس المقامرة تعهد رئيس الوزراء الإيطالى ماتيو رينزى هو الآخر بالاستقالة من منصبه إذا رفض الإيطاليون خطته لإجراء تعديلات دستورية لتقليص دور مجلس الشيوخ وصلاحيات السلطات المحلية فى الاستفتاء الذى أجراه فى 4 ديسمبر. وبالفعل إضطر إلى إعلان استقالته بعد أن تلقى ضربة قاصمة بتصويت 60 فى المائة ب «لا» على إجراء التعديلات الدستورية ليهوى نجم رينزى أصغر رئيس وزراء إيطالى وتدخل البلاد فى دوامة من الإضطرابات السياسية والقلاقل الاقتصادية. الطريف أنه قبل حوالى ثلاث سنوات عنما تولى رينزي، زعيم الحزب الديمقراطي، رئاسة الوزراء وكان عمره لا يتجاوز ال 39 عاما اعتبره الكثيرون بمثابة «الأمل الأخير» فى إجراء تغيير حقيقى بالبلاد.فبعد معاناة طويلة من الفساد والخلل الحكومى فى ظل حكم رئيس الوزراء السابق سيلفيو بيرلسكونى تشبث الإيطاليون بوعود رينزى (عمدة فلورنسا السابق) بالإصلاح وبخططه الكبيرة للخروج بإيطاليا من أزماتها الاقتصادية، وأمنوا بتمرده على المؤسسات السياسية القديمة التى طالما عانوا منها. ومما ساهم فى بزوغ نجم رينزى أكثر هو شعبيته داخل الاتحاد الأوروبي، وذلك نتيجة إيمانه بالحلم الأوروبي، وعلاقته الطيبة بالولايات المتحدةالأمريكية. ولكن سرعان ما بدأ الإيطاليون يتهمون رينزي، سليل عائلة غنية من توسكاني، بأنه لايختلف كثيرا عن السياسيين الآخرين وأنه عاجز عن الإيفاء بوعوده الانتخابية وحل المشاكل السياسية والاقتصادية التى تعانى منها البلاد وذلك على الرغم من تمريره لبعض الإصلاحات الهامة مثل مشروع إصلاح قانون الوظائف وإجراء التعديلات فى النظام الإنتخابي. وفى هذه الأجواء بدأ حزب النجوم الخمسة نجوما فى كسب تأييد قاعدة عريضة من المواطنين مرتكزين على تراجع شعبية رينزى واستمرار الركود الاقتصادى والعداء المتزايد للمهاجرين. ولم يلتفت رينزى كثيرا لكل ذلك وخاطر بمستقبله السياسى فى محاولة لتقوية الحكومة المركزية عن طريق تعديلات دستورية لتحجيم مجلس الشيوخ فيما وصفه بأنه «يحقق الاستقرار السياسى فى إيطاليا ويسرع بالإصلاحات». إلا أن الأحزاب السياسية فى إيطاليا بل والكثيرين من داخل الحزب الديمقراطى (حزب رينزي) رأوا فى التعديلات المقترحة مجرد محاولة من رينزى لتوسيع صلاحياته ونفوذه فاصطفوا لحشد الإيطاليين لرفضها. وهنا يشير بعض المحللين إلى أن تصويت الغالبية الساحقة من الإيطاليين ب «لا» فى الاستفتاء لم يكن رفضا للتعديلات الدستورية فقط بل كان رفضا لسياسات الحكومة وإرتفاع معدلات البطالة وأزمات القطاع المصرفى المتكررة. مقامرة رينزى القاضية أدخلت إيطاليا فى نفق لا يستطيع الكثير من المحللين التنبوء بكيفية الخروج منه. فهناك أولا حالة الفراغ السياسى التى تواجهها البلاد إلى أن يتقرر ما اذا كانت ستجرى إنتخابات مبكرة أم سيكلف الرئيس الإيطالى الحزب الديمقراطى باستكمال المدة إلى حين إجراء الانتخابات المقررة فى 2018. كما أن نتيجة الاستفتاء وإستقالة رينزى تمنح حزب الخمسة نجوم والأحزاب اليمينية دفعة قوية. ثانيا والأخطر هو ماتعنيه نتيجة الإستفتاء للشركاء الأوروبيين حيث تتزايد التكهنات حول خروج إيطاليا (ثالث أكبر اقتصاد ) من منطقة اليورو وتأثيرات ذلك شديدة السلبية على إقتصاد الاتحاد الأوروبى واقتصاد إيطاليا نفسها. ووسط هذه الأجواء الملبدة بالغيوم قد يواجه القطاع المصرفى المضطرب أساسا مزيدا من الضربات حيث يخشى الخبراء هروب بعض المستثمرين وإقدام الكثير من المواطنين على سحب مداخراتهم من اليورو من البنوك خشية انسحاب إيطاليا من منطقة اليورو والعودة لليرة الإيطالية التى لن تقوى على التنافس، وهو ماقد يؤدى إلى انهيار اقتصادى سريع قد يؤدى بالتبعية إلى أزمة مالية فى أوروبا كلها.