ننطلق فى سلسلة مقالاتنا الأخيرة من فرضية أساسية، مبناها أن الأحداث الإرهابية التى ضربت مواقع القوة الأمريكية فى 11 سبتمبر 2001 مثلت فى الواقع قطيعة تاريخية، بمعنى أن الحقبة السابقة عليها بما تتضمنه من أحداث دولية وإقليمية ومحلية ستختلف بالضرورة عن الحقبة التى تلت هذه الأحداث الإرهابية الخطيرة. وقد أكدنا من قبل أن «عاصفة سبتمبر» كانت فى تقديرنا بداية الحروب الثقافية بين الغرب والعالم الإسلامى. وأضفنا من بعد أن «المركزية الغربية» التى اعتاد أنصارها الزعم أن الحضارة الغربية أسمى من كل الحضارات وأنها مصدر الأحكام المتعلقة بتأخر الشعوب أو تقدمها تمر بأزمة حادة، لأنها بهذه المبالغات العنصرية التى صاحبت الحملة الاستعمارية على بعض الشعوب الإسلامية والعربية كانت أحد الأسباب المولدة للإرهاب الذى تقوده وتقوم به حركات إسلامية متطرفة تتبنى هى الأخرى نظرة عنصرية إلى الآخر الغربى على أساس مقولة أساسية مبناها أن «المسلمين أسمى من غيرهم»، وذلك تطبيقا لعدد من المقولات التى تتضمنها ما يطلق عليه بعض الباحثين «المركزية الإسلامية». فكأننا أمام صراع تاريخى بين مركزيتين هما «المركزية الغربية» من جانب و«المركزية الإسلامية» من جانب آخر. ونريد اليوم فى مجال استعراضنا التحليلى للآثار المدمرة لأحداث سبتمبر أن نطرح مجموعة من التساؤلات الرئيسية عن بنية المجتمع العالمى من خلال رصد تحليلى للتغيرات التى لحقت به منذ عام 1990، وهى التى أجمع خبراء العلاقات الدولية على توصيف أبرز اتجاهاتها أنها «انفلات العالم من ناحية»، ومحاولة «ضبط إيقاعه» من ناحية أخرى. مؤشرات الانفلات متعددة، وهى ثورة الأعراق، والانفصال عن الدول القومية، والحروب الأهلية ذات الطابع الدينى، ودعوات التطهير العرقى، وزيادة حدة الاستعمار الاستيطانى فى فلسطين، أما محاولات الضبط فأخذت أساسا اتجاهين: التدخل الإنسانى (الصومال) . والتدخل السياسى (كوسوفو العراق) . وكل نمط منهما يثير إشكاليات قانونية وسياسية وعملية . وإذا نظرنا إلى نمط العلاقات الدولية الذى سيسود بعد 11 سبتمبر 2001، فهناك تساؤلات أهمها: هل حقا سننتقل من هيمنة القطب الأكبر (الولاياتالمتحدةالأمريكية) إلى الهيمنة الشاملة للإمبراطورية الأمريكية؟ وما انعكاسات ذلك على مجمل العلاقات الدولية واتجاهاتها فى العقود المقبلة؟ وعلى الدول العربية تحديدا؟ وقد لفت نظرنا بشدة بعد أحداث سبتمبر مباشرة أهمية تحليل الخطاب السياسى الذى صدر عن قادة الدول الغربية. ولو حللنا مضمون الخطاب السياسى الأمريكى لوجدنا مجموعة من الشعارات الأساسية ولعل أبرزها بداية الحرب على الإرهاب فى ضوء شعار «من ليس معنا فهو ضدنا» وحق الولاياتالمتحدة المطلق فى ضرب الدول التى تؤوى الإرهابيين أو تشجع الإرهاب، وأن حرب الإرهاب ستستمر إلى مدى زمنى غير منظور . وهناك أسئلة عن التحالفات الدولية الجديدة ومواقف مختلف الدول منه وآثاره على مواقع الدول وحراكها فى النظام الدولى، وتأثيراته على العلاقات بين الحكومات والشعوب. ويلفت النظر فى الخطاب الثقافى موضوعات بالغة الأهمية لعل أبرزها هو إثارة الفروق بين المدنية والبربرية. وذلك كان فى الواقع إعادة إنتاج للتفرقة التى ابتدعها خطاب الحداثة Medernity الغربى والذى تطور من بعد ليصوغ الإيديولوجيات العنصرية فى القرن التاسع عشر لتبرير الاستعمار الغربى لشعوب العالم الثالث وأهمها على الإطلاق نظرية (عبء الرجل الأبيض) بمعنى مسئوليته الأخلاقية فى تمدين البرابرة ويعنى بذلك الشعوب غير الغربية! وتمثل الخطاب الثقافى أيضا فى إعادة إنتاج خطاب المركزية الغربية الذى يؤكد أن الغرب هو المصدر الأساسى للقيم الإنسانية الصحيحة، مع تبنى نظرة دونية للثقافات والحضارات الأخرى. وقد تبين أيضاً تأثير اللا شعور التاريخى فى العداء بين الغرب والإسلام فى بعض عبارات الخطاب السياسى (راجع بوش حين استخدم عبارة Crusade «الحملة الصليبية» لوصف الحرب ضد الإرهاب، وتأمل العبارة العنصرية. التى أطلقها بيرلسكونى حين صرح قائلاً بأن «الحضارة الغربية أسمى من الحضارة الإسلامية!». ومن الواضح أن هذه المقولات العنصرية تسلم -وإن كان بطرق غير مباشرة- بمقولة «صراع الحضارات» التى ابتدعها «هنتنتجون» فى كتابه الشهير بنفس العنوان. غير أن تحليل الخطاب السياسى والثقافى الغربى بعد أحداث سبتمبر لا يغنى عن تحليل الخطاب العربى والإسلامى ومن هنا ضرورة تحليل الخطاب الإسلامى المتخلف الذى تبنته منظمة «القاعدة» و«طالبان» وقوى وقيادات إسلامية متطرفة، عن توصيف الحرب ضد الإرهاب بأنها حرب دينية بين المسلمين والغربيين. وفى نفس الوقت هناك ضرورة لتحليل الخطاب السياسى العربى المتخلف الذى لا يعترف صراحة بإدانة الإرهاب، ويبدى تعاطفا بصورة صريحة أو ضمنية مع «بن لادن» والتيار الذى يمثله مما يعنى الموافقة على ممارسة الإرهاب ضد الدول الغربية. وانتقلنا فى إطارنا النظرى إلى إثارة مجموعة مهمة من الأسئلة الاستراتيجية أهمها عن السياسات التى صيغت لمواجهة الإرهاب وهى: هل التحالف الدولى كان هو الصيغة الأمثل لمواجهة الحدث؟ وهل الحرب كما تمت ضد أفغانستان وإن أدت إلى انهيار طالبان قادرة حقا على مواجهة الإرهاب؟ أم لابد من مواجهة أسبابه؟ وهل هذه المواجهة شأن أمريكى أو غربى خالص، أم أن هناك مسئولية تقع على عاتق المجتمعات العربية والإسلامية التى تسودها نظم سلطوية ويشيع فيها الفساد، وتزداد الفروق الجسيمة بين الغنى والفقر؟ وهل هناك حقا فرصة لممارسة النقد الذاتى الأمريكى لمجمل السياسات الأمريكية المعادية للشعوب فى الحقبة الماضية؟ وممارسة النقد الذاتى الإسلامى والعربى فى نفس الوقت؟ وأخيرا أثرنا أسئلة عن الممارسات وهى كيف تم تنفيذ التحالف الدولى؟ وكيف دارت الحرب، وهل صحيح أنها وجهت فقط لقواعد طالبان العسكرية أم أنها لحقت أيضا الشعب الأفغانى، وأحدثت خسائر وأضراراً فادحة بالمدنيين الأبرياء؟ وماذا عن تحول المجتمع الأمريكى بعد 11 سبتمبر من مجتمع تسوده -كما عبر عن ذلك منذ سنوات الكاتب الأمريكى «بيتر جروس» «فاشية ودودة» -Friendly Facism إلى مجتمع تسوده فاشية صريحة وعدوانية، كما تبين من القوانين الاستثنائية التى تقيد حريات كل من الأمريكيين والأجانب؟ وأسئلة حاسمة أخيرة عن ما هى النتائج المتوقعة من الحرب ضد الإرهاب التى قادتها الولاياتالمتحدةالأمريكية على بنية النظام العالمى ذاته والقيم التى يستند إليها، وأهم من ذلك ما هى النتائج غير المتوقعة؟ [email protected] لمزيد من مقالات السيد يسين