«لم أعرف دفء الحب، لم أشعر ببهجة السعادة، ولكني وجدت لنفسي صديقا في شعبي الروسي الذي أحببته وانتقدت أخطاءه ولكنه كان نقد المحب القلق على محبوبه، لقد قدست هذا الشعب ووجدت فيه كل شخوص رواياتي.. وعايشت طبقاته، عرفت مثقفيه ولكني زهدتهم واتجهت بوجداني لبسطائه، فهفا عقلي وقلبي للملايين البائسة فجاءت باكورة أعمالي «ناس فقراء» ورغم النجاح الذي حققته الرواية إلا أن ذلك لم يحظ برضاء القيصر، ولكن شعبي كان معي، فخلال نقلي إلي السجن وقبل أن اصعد الي القطار قامت سيدة عجوز لا أعرفها بإعطائي خلسة نسخة من الإنجيل ووجدت بين صفحات الكتاب المقدس عددا قليلا من الأوراق المالية، فأحسست وكأنها تقول لي «لست وحدك فلا تبتأس». .......................................................... محدثنا هو الروائي المبدع فيدور ديستويفسكي الذي رفض الاستسلام للمرض حيث كان عليلا طوال حياته القصيرة، وتمرد على حرمانه وصعاب حياته من فقر وسجن بأن استغلها في التفكير، فكانت اعماله بحثا في أعماق نفس الانسان، تسال عن هذا الكائن، هذا المخلوق القادر على تحقيق الخير بنفس الكيفية التي يستطيع بها ارتكاب الشر، كان يريد أن يكتشف سر قدرة الانسان على البناء وفي الوقت نفسه التدمير، فقد كرس محدثنا حياته التي لم تتجاوز الستين عاما ليؤكد فكرته حول أن البشرية لن تهنأ بحياة إن لم تستطع أن تعرف حقيقة الكائن المحير الذي خلقه الله سبحانه وهو الانسان. «الموهبة المريضة» هكذا دأب معاصرو ديستويفسكي على وصفه، فرغم معاناته مع مرض الصرع، وتتابع ضربات القدر من سجن عدة مرات ومواجهة حكم بالاعدام وفقر واستدانه بعد أن هرب من واقعه إلي القمار ثم الخاتمه المؤلمة بفقده ابنه، رغم كل هذه المآسي فإنه أبدع للحضارة إرثا من الاعمال التي رصدت الصراع بين الخير والشر داخل الانسان، فكانت بمثابة تشريح نفسي أزعج عالم النفس الشهير سيجموند فرويد بسبب دقته فقال: كل مرة أنتهى من كتابة بحث عن حالة نفسية، أجد ديستويفسكى قد كتب عنها فى رواياته، أما عن عالم الفيزياء الأشهر البيرت أينشتاين فقد اجاب بلا تردد عندما سئل عن عبقرى القرن التاسع عشر قائلا: إنه ديستويفسكى. «حياتي كانت سلسلة من الصعاب، بعضها كان قدريا وبعضها اوجدته بيدي مثل إدماني لرذيلة القمار قبل أن انجح في الشفاء منها عبر الكتابه فكان قلمي عوني حيث عبرت عن معاناه المقامر وادمانه لعبة الروليت في قصتي القصيرة «المقامر». ولكن الأزمة التي كان لها اثر بالغ على تجربتي هى مواجهة عقوبة الاعدام، ففي عام 1849 جرى اعتقالي مع مجموعة من أقراني من الشباب لأننا كنا نحتفل بميلاد الكاتب الفرنسي شارل فورييه صاحب افكار تغيير المجتمع فكانت له نظرية في الاقتصاد الاجتماعي تأثر فيها بالمنهج الاشتراكي، حيث دعا لأن يتاح لكل شخص العمل حسب قابليته الشخصية وله الحق في تغيير نوع العمل، وهي أفكار رأى فيها رجال القيصر جريمة كبرى خاصة أن أحد أقراني كان يشرع في ترجمة كتاب فورييه. وهكذا جرى اعتقالنا لمدة سبعة أشهر، قبل أن يصدر ضدنا حكم بالإعدام، ثم قضينا شهراً آخر قبل التنفيذ، وفي يوم التنفيذ، نصبوا الأعمدة، وألبسنا المتهمين زي الإعدام وحضر القسيس، واستعد الجنود ببنادقهم، ثم جاء حكم القيصر في هذه اللحظة الرهيبة، باستبدال الحكم من الإعدام إلى النفي أربع سنوات لسيبيريا. هذا الاختبار الصعب، حين وقفت أمام الجنود انتظر لحظة النهاية جعلني أرى الحياة من منظور آخر، جعلني اشاهد الحياة –ليست حياتي وحدي- وإنما الحياة بكاملها من عدسة الموت وكان لذلك تأثيره الكبير علي..» لقد كانت للحظة مواجهة الموت تأثيرا واضحا على أعمال ديستويفسكي فنراه يجتر هذا المشهد في روايته الجميلة «الأبله» حيث تحدث عن مشاعر محكوم عليه بالأعدام، فشرح بكثير من الحساسية والرقة والدقة أفكارة والتناقضات بداخله قبل أن يغادر الحياة. والواقع أن روايات محدثنا كانت الي جانب كونها غوصا في النفس وما بها من صراع أبدي بين الخير والشر، فإنها كانت في الوقت نفسه مرأة لتجربته الشخصية حيث وضع فيها نفحات من سيرته الذاتية. فنجده فى روايتة الأخوة كرمازوف، قدم حالات رسم بني أدم الثلاثة الخير والشر والانسان الحائر بينهما، فإيفان الاخ الأكبر الذي يتمرد على شخصية والده، الكهل الذي لم تزده سني شيخوخته وقارا وإنما نزقا واسرافا في موبقات الخمر والنساء، فيرفض الابن الأكبر هذا السلوك، بينما يتبني شقيقاه الأوسط ديمتري والأصغر أليوشا اتجاهات أكثر قوة ووضوحا، فديمتري الذي يكره أباه بشدة بسبب ميراثٍه الذي حصل عليه من والدته قبل أن يغتصبه الاب، يمثل الشر، أما أليوشا الطيب المحب للجميع فيمثل الخير بنقائه وطهره، وبينهما إيفان الذي يمثل الإنسان فقد عجز أن يكون ملاكا كأخيه الأصغر أليوشا ولم يكن شريرا كأخيه ديمتري. في روايته الأبله حاول أن يعيد شخصية أليوشا كإنسان، من خلال الأمير ميشكين الذي يعود الي روسيا حاملا لمجتمعه العامر بالغيرة والتكالب على المال فطرة الانسان النقية التي جلبت علي الخير فيجد نفسه في غمار صراعات سعى لحلها عبر مبادئة الخيره ولكنه يتسبب في الكثير من المشكلات لمن حوله، وكأن ديستويفسكي يريد فضح ما حدث من تشوه للإنسان، فيهجر الامير موشكين روسيا عائدا إلى حياة العزلة في سويسرا مقتنعا بأن هذا الزمن لم يعد يتحمل قديسين. أما فى رواية الجريمة والعقاب فيكمل حديثه عن نفسية المجرم والصراع، فكاتبنا لا يدين المجرم فيعطي مبررات يحاول البطل ان يريح بها ضميره، ولكنه ينتصر الي الخير في النهاية حيث يقوم البطل بتسليم نفسه الي الشرطة، راضيا بحكم العدالة حتى ينجو من عذاب الضمير. وعن هذه الرواية كتب ديستويفسكي لأخية بعد خروجه من السجن قائلا: «إن هذه الرواية ستثبت أنى كاتب روسي عظيم»، وكانت بالفعل من أجمل كتابته. «أريد أن أحكي لكم عن إحدى رسائلي إلى أخي، ارسلت له هذا الخطاب في 22 ديسمبر 1849 وكان ذلك عقب اعتقالي وصدور حكم الاعدام ضدي، كنت قلقا عليه وعلى عائلته، وأردت أن أحكي له عن تغيير الحكم من الموت الي السجن، فكتبت له قائلا: «حصل ما حصل، وحكم عليّ بالسجن أربع سنوات وبعدها أعود لألتحق بالجيش. وقد أبلغت أنهم يا أخي الحبيب سيرسلونني اليوم أو غداً. وقد طلبت رؤيتك فأخبروني أن هذا محال وأن كل ما يستطيعونه أن يسمحوا لي بالكتابة إليك. وأنا أخشى أن يكون قد بلغك الحكم علينا بالإعدام، فقد نظرت من نافذة العربة التي حملتنا إلى ساحة الإعدام ورأيت في الطريق جمهوراً كبيراً وخشيت أن يكون من رأوني قد أبلغوك وآلموك بذلك. ولكن الآن يمكن أن تهنأ بشأني يا أخي. لا تظن أن الحكم قد هدني.. فالحياة في كل مكان هي الحياة. هي بداخلنا وليست فيما هو خارج عنا. وسيكون قريباً مني أناس وسأكون رجلاً بينهم، وأبقى كذلك للأبد، ولن يهن قلبي أو تفشل عزيمتي أمام المصائب. وهذا في اعتقادي هو الحياة أو الواجب في الحياة. وقد حققت ذلك وصار هذا الخاطر جزءاً من لحمي ودمي. أجل فهذا الرأس الذي كان يبتكر ويعيش سمو الحياة الفنية والذي حقق أسمى الحاجات الروحية، هذا الرأس قد قطع من عاتقي ولم يبق عندي سوى الذكريات والخيالات التي اخترعها ولكنها لم تتجسم في ذاتي بعد، وأعرف أنها ستمزقني. ولكن ما يزال باقياً لي قلبي وهذا اللحم والدم الذي ما يزال قادراً على الحب والألم والرغبة. ولا تنس أن هذه هي الحياة. أجل مازلت أرى الشمس...» نعم كان لا يزال يرى الشمس، وعبر اشعتها الدافئة استطاع أن يغزل من عذابات حياته مصباحا هائلا أضاء طريقه في ثبر أغوار النفس وما بها من تشوهات، وقدم لها العلاج بالمصارحة، فكان الكهل الذي خبرته الحياة ولكنه ظل يمتلك دهشة الاطفال وخيالهم وقدرتهم على قول الحق، فترك للبشرية بعد رحيله عام 1881 ارثا من الابداع ترجم الي 170 لغة وجعله يتربع علي عرش الكتابة القصصية خالدا أبدا..