بدا العالم مصدوما بفوز دونالد ترامب، فى واحدة من أكثر الانتخابات الرئاسية انحطاطا، مع أنها ليست المرة الأولى التى يختار الأمريكيون - مع سبق الإصرار والترصد - شخصيات مثيرة للجدل. يذكر ستانلى كارنوف بكتابه «الامبراطورية الأمريكية» أن الرئيس ويليام ماكينلى، الذى بدأ عصر التوسع الامبراطورى الأمريكى، شخصية غريبة – تحمل وجوه شبه مع ترامب - فقد كان رجل أعمال وسياسيا لايملك التجربة أو الثقافة اللازمة لاتخاذ قراراته، لهذا اعتمد على جماعات الضغط من أصحاب المصالح. وشاعت فى عهده نكتة: «كيف يتشابه عقل الرئيس ماكينلى مع سريره؟..لتأتى الإجابة: كلاهما لابد أن يرتبه له أحد قبل أن يستعمله..!!». من المحتمل أن يتولى صقور الجمهوريين من المحافظين الجدد مهمة ترتيب عقل ترامب، قبل أن يستعمله، مثلما فعلوا مع بوش الابن، ويتركوا للسيدة الأولى ميلانيا ترتيب سرير الرئيس هذه المرة..! وصف المخرج مايكل مور «ترامب» بأنه: «البائس الجاهل الخطِر المهرج بدوام جزئي، والمعادى للمجتمع بدوامٍ كامل»، فلماذا اختاره الشعب رئيسا، مع علمهم أن كثيرا من حلفائهم مذعورون من أفكاره ورؤاه؟ لمحدودية المساحة، نتوقف عند الفلسفة المهيمنة التى قفزت بالرجل إلى الحكم. منذ تأسيسها، ترى أمريكا أنها حارسة الحضارة الغربية والوصية عليها، انطلاقا من «تصورات القوة الخالصة» التى تحكم العقل الأمريكى، فالبقاء للأقوى، وفقا لنظرية «النشوء والارتقاء» الداروينية، الفائزون فى صراع الحياة هم الأقدر على التكيف ومغالبة العوائق وإزاحة المنافسين، يتجلى ذلك فى ولع القوم، بأفعال التفضيل: الأقوى، الأفضل، الأذكى، الأعظم، الأجمل، الأسرع.. المدهش حقا أن هذا وجد تمثله فى إعجاب أمريكا الفادح بشخصية القرصان الأشهر الكابتن مورجان «السوبر مان»، خلال القرن السابع عشر - عن طريق ثرواته أنشأت أسرته البنك العملاق المعروف باسمه- كان «مورجان» يرابط بجزيرة وسط الأطلسي، منتظرا عودة سفن القراصنة، بعد رحلتهم الشاقة فى عرض البحر، محملة بكنوز عدة سفن أغاروا عليها، فينقض عليهم، ويسلبهم ما استولوا عليه..تقوم «فلسفة» مورجان فى القتل والإغارة على التدخل فى آخر أوقات المعركة، بعد إنهاك الخصوم الأقوياء بعضهم بعضا، منحه هذا سمعة قتاليّة خارقة وغنائم بلا حد.وهذا ما فعلته واشنطن بعد انتهاء الحرب الأهلية التى أراقت دماء نصف مليون شخص، والتى سبقتها إبادة ملايين الهنود الحمر سكان البلاد الأصليين. سال لعاب الأمريكان على ما تحوزه الأمبراطوريات الاستعمارية السابقة البرتغالية والأسبانية، ثم الفرنسية والبريطانية حول العالم، فانطلقت تقضم ممتلكات تلك الامبراطوريات «القراصنة» دفعة واحدة أو دفعات. ولأنها دولة ناشئة كشفت عن وجهها بالعنف لا بالحكمة، ولم يكن المخزون الحضارى كافيا لترويض الغرائز. وفى مطلق الأحوال، ظلت مخالب النسر «الجارحة» -شعار الولاياتالمتحدة - بلا غطاء أو قفاز جلدى أوحريرى، فالدولة الأقوى فى التاريخ عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا.. لم تتورع عن استخدام سلاح الإبادة النووى فى الحرب العالمية الثانية، وأشباهه فى فيتنام وعقب هجمات 11 سبتمبر بأفغانستان والعراق.نشأت أمريكا وترعرعت دولة متحركة، لا تطيق الوقوف، تعتبره استسلاما لحصار أو تمهيدا لتراجع، تحفزها غرائزها دائما لأن تتقدم وتقضم؛ فى السنوات الماضية أصيبت «النخب الأمريكية الفاعلة» بخيبات أمل، من سياسات الرئيس أوباما وإدارته الضعيفة المُتردّدة، فكان التصويت عقابيا تجاه نظامٍ سياسى معطوب، ضد كلينتون «وزيرة خارجيته السابقة»، أكثر منه تأييدا لترامب، الذى يمثل لدى آخرين نموذج الرجل الشعبوى الأبيض القوى «القرصان» الصاعد بقوة، برغم ممانعة مؤسسات: الحكم، الإعلام، وول ستريت.. وفى كل صدرت «دير شبيجل» الألمانية عشية الانتخابات بغلاف يحمل صورتى هيلارى وترامب ملطختين بالوحل والقذارة، فى إشارة إلى أن كليهما مكروه وسييء. وشئنا أم أبينا، تظل الحقائق ناقصة، مادامت تحيطها ظلال كالثقوب السوداء.. واقع اليوم يقول: إن سيدا جديدا بالبيت الأبيض، صدى آرائه يتردد من حولنا، صحيح أن بها كثيرا من ضبابية الخلط والتعميم وربما الإنذار والخطر، العزلة أو الصدام الحضارى، جميع الاحتمالات واردة، ما يتمناه قاطنو الشرق الأوسط ألا يكون المسار فرضا للسيطرة، إنما دعوة إلى «شراكة» مع التسليم باحتمالات الخلل فى عدالة «الشراكة» بين طرف بالغ القوة وشركاء أقل منه قوة بكثير، لكن تحقيق قدر من العدل يتوقف على إرادة الأقل قوة ودرجة استعداده، وهو ما ينبغى أن نعيه ونتحسب له. ينقل المؤرخ جان لاكوتور عن الزعيم الفرنسى ديجول قوله: «إننى أستطيع أن أفهم إنجلترا والصين وألمانيا، لكنى لا أستطيع أن أفهم أمريكا، لأنه ليست لها فى التاريخ مفاتيح تمكن من ذلك». [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن;