منذ سنوات استضفتُ دانا بارينو المتحدثة السابقة للبيت الأبيض فى عهد الرئيس جورج بوش الابن، للحديث فى برنامج تسجيلى شاركت فيه عن هيلين توماس كبيرة المراسلين السابقة فى البيت الأبيض. كانت هيلين التى رحلت منذ سنوات قليلة معروفة بمواجهاتها الحادة مع بوش شخصيا وكل المرتبطين بالإدارة فى تلك المرحلة التى صاحبت غزو العراق وانهيار عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، فكثيرا ماطرحت الأسئلة الصعبة فى المؤتمرات الصحفية بما أزعج بوش ومساعديه حتى إن بوش خالف العرف السائد بأنه توجه هيلين السؤال الأول ككبيرة للمراسلين، ولم تعد قادرة على توجيه أسئلة محرجة إليه. مع هذه الخلفية كنت أتوقع بعض الانتقادات من دانا بارينو فى حديثها عن هيلين توماس ، لكن ماحدث هو أنها أشادت بها وبقوة باعتبارها صحفية مهنية تعمل باحترافية. كان أكثر ما أثار احترامها لهيلين أنها لم تكتب مقال رأى واحد على مدى عقود من عملها فى الصحافة منذ أيام الرئيس كيندي، ولم تسمح لنفسها بكتابة تلك المقالات إلا بعد أن توقفت عن ممارسة العمل الصحفى كمراسلة. هذه النقطة تحديدا ربما تكون المفتاح فى تحليل مشاكل الإعلام المصرى الذى اختلط فيه الخبر بالتحليل بالتعليق والرأي، وظهر ذلك الخلط فى الندوة الهامة التى عقدت فى شرم الشيخ عن مشاكل الإعلام المصري. بالتأكيد هناك مشاكل أخرى كثيرة ركز عليها المشاركون والمتابعون خاصة من أهل المهنة، لكن يبقى هذا الخلط أصلا لكثير من الانحرافات التى نعانى منها الآن. فمثلا أكد الأستاذ إبراهيم عيسى أن الإعلام يعنى «الخبر والرأي.. المعلومة والتحليل» ودلل على ذلك بافتتاحيات الصحف التى تعلن تأييدها للمرشحين الرئاسيين فى أمريكا وهذا صحيح، لكن ماينبغى توضيحه هنا هو أن موقف الصحيفة أو رأيها يتم وضعه فى إطار خاص كافتتاحية فى صفحة داخلية لايتم خلطها بعنوان الصفحة الأولى أو أى موضوعات أخرى منشورة، وهو أمر لا أعتقد أن الأستاذ إبراهيم يمكنه أن يدعيه فى الصحف التى أصدرها باعتباره “أفضل صحفى فى العالم”. القضية هنا ليست سياسية بل مهنية بالأساس. من حق أى صحفى أو كاتب أن يعبر عن رأيه بالصورة التى يريدها سواء فى جريدة أو على شاشة التليفزيون أو وسائط التواصل الاجتماعي، لكن المهم ألا يفعل ذلك كصحفى يقول للناس إنه ينقل لهم الخبر بشكل مهني. وهنا يجب ألا نخلط بين التحليل الذى يمكن للصحفى أن يقوم به فى إطار توضيح خلفية الخبر والإطار العام للحدث والعوامل المؤثرة فيه، فهذا مقبول من الصحفي، وبين التعليق أو إبداء الرأى الذى أصبح أمرا سائدا لدى الكثير من “الصحفيين” خاصة بعد أن فتحت القنوات الخاصة استوديوهاتها لهم لممارسة الخطابة. المفارقة أنهم ينكرون على الدولة القيام بمهام “التوجيه والإرشاد” باعتبارها موضة قديمة فى الإعلام الرسمى وطالبوا بإلغاء وزارة الإعلام، وهذا يمكن أن يكون مقبولا فى ذاته، لكنهم أرادوا أن يعودوا من الباب الخلفى لأداء هذا الدور التوجيهى من خلال الإعلام الخاص الذى لم يبتعد كثيرا عن أجهزة الدولة أيضا. هنا أعود قليلا للإعلام الأمريكى الذى أصبح يعانى أيضا من هذه الظاهرة بانتشار برامج (التوك شو) فى الراديو والتليفزيون خاصة فى قنوات الكابل الإخبارية مثل فوكس نيوز و شبكة إم إس إن بى سي. فهناك برامج عديدة خاصة فى الفترة المسائية تحتكرها مجموعة من الأسماء اللامعة لمقدمى برامج مثل شون هانيتى وبيل أورايلى فى اليمين المحافظ ، و راشيل مادو و كريس ماثيوس من الليبراليين. لكن المهم هنا هو أن أيا منهم لايجلس أمام الشاشة لادعاء أنه صحفى أو يقدم تحليلا للأنباء، بل يخاطب الناس كمعبر عن توجه سياسى وأيديولوجى يعرفه المشاهد ويقبله أو يرفضه. هذا لايجعل تلك الظاهرة مقبولة، بل سبق وحذر الصحفى الراحل دافيد برودر من تأثيرها المدمر على مهنة الصحافة، لكنها تظل محكومة بما هو واضح للجمهور من توجهاتها، كما أنها محكومة بقواعد قانونية وأخلاقية تشرف عليها هيئة الاتصالات الفيدرالية تمنع انتهاك الأعراض والخصوصيات دون محاسبة. هناك أيضا تنوع فى المعروض ومتابعات تسمح بتصحيح المعلومات المغلوطة والمزيفة التى يتم الترويج لها دون تصحيح فى مصر على ألسنة هؤلاء (الخطباء الصحفيين). والقضية ليست فى أن يتم إصدار قوانين جديدة للعقوبات أو لتقييد الصحافة، فمشكلة تلك الصحف والقنوات والبرامج ليست فى انفلات الحرية المطلقة، بقدر (التوظيف غير المهني) لها لخدمة من يفترض أن يمنعوا الخروج على القواعد. فمصر لم تكن فى حاجة لقانون جديد يوضح أن إذاعة تسجيلات لمكالمات خاصة على بعض الفضائيات غير قانوني، وليست فى حاجة لقانون يؤكد أن سب أفراد وجماعات على الهواء بلغة مبتذلة أو اتهامهم بدون دليل، فيه مخالفة لقواعد المهنة. لكن البعض يحاول توظيف تلك المخالفات واستخدامها لصالحه بدلا من تصحيحها. والنتيجة أننا سنظل ندور فى تلك الحلقة المفرغة من المخالفات التى لايتغير فيها سوى الوجوه على الشاشات. بقى القول إنه إذا قبلنا بمبدأ عمل الصحفى لخدمة قضية أو توجه ما فالمؤكد أنه سيكون أكثر فعالية لو تم بشكل مهنى يحظى بالمصداقية بدلا من الصراخ أمام الميكروفون الذى هو أقرب للتسلية وشغل أوقات الفراغ. لكن الملاحظ أن كثيرا من هؤلاء (الصارخين) يفتقدون لقواعد المهنة وربما لم يمارسوها من الأساس فليس من المنطقى أن نطلب أو نتوقع منهم اتباع تلك القواعد. الأمر إذن يحتاج وقفة للتصحيح، لكن ليس بمنطق التعامل مع الإعلام على أنه الولد العاق الذى يجلب لأبيه المشاكل فى الداخل والخارج وبالتالى يجب معاقبته وتلجيمه، فأحيانا تكون مشكلة هذا (الولد) أنه يسمع الكلام أكثر مما ينبغى حتى فى الغلط. فإذا كانت هناك جدية بالفعل فى تصويب مسيرة الإعلام فلابد من تبنى سياسة واضحة تحمل احتراما أكبر (للمهنية) بين العاملين فيه وتوفير المعلومات الصحيحة لهم، ووقف الاعتماد على أساليب الحشد (العكاشية) فى عمليات التوجيه بعد أن ثبت أنها تضر أكثر مما تنفع. لمزيد من مقالات محمد السطوحى;