فى عام 2010م وبالقرب من المنصة بطريق النصر، وقع حادث تصادم بين سيارتين، فى أولاهما كان السد العالى الكابتن عصام الحضرى حارس مرمى منتخب مصر الكروي، وفى الثانية رجل مهيب كبير فى السن، وتدافع شهود الحادثة للإطمئنان على الحارس الدولي، وتوجه نفر منهم إلى الرجل الكبير الذى لا يعرفه أحد، لإقناعه بمسامحة الكابتن المخطيء، واعتبار الحادثة قضاء وقدرًا، نظرا لما قدمه «الحضري» من عطاء لمنتخب مصر، دون أن يدركوا أن من يحدثونه أعطى لمصر أكثر مما أعطتها منتخباتها الرياضية مجتمعة. فالرجل المهيب الطلعة الذى خط الشيب شعر رأسه، كان واحدًا من رجلين لهما دور كبير فى تحقيق نصر أكتوبر، أولهما قاهر خط بارليف أو سد بارليف الترابى اللواء أركان حرب مهندس باقى زكى يوسف، مبتكر المدفع المائي، وقد نال «بعضًا» مما يستحق من التكريم والشهرة، حيث تناولت وسائل الإعلام اسمه، وقامت الأكاديميات العسكرية العالمية بتدريس فكرته لطلابها، وكرمته الدولة بمنحه رتبة اللواء ونوط الجمهورية من الدرجة الأولي. أما بطلنا د.محمود يوسف سعادة - وهذا هو اسمه - فلم ينل «جزءًا» مما يستحقه، وأمضى فى حياته يخدم مصر فى دأب وصمت، مترفعًا عن صغائر الدنيا ومناصبها، ومنكبًا على دراساته العلمية، متفرغًا لعمله البحثي، نائبًا لرئيس أكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا، ومديرًا لمكتب براءة الاختراع فى تسعينيات القرن المنصرم، ثم أستاذًا متفرغًا بالمركز القومى للبحوث، حتى لاقى وجه ربه الكريم فى 28 ديسمبر 2011م. قد يسأل سائل: وما علاقة هذا العالم بنصر أكتوبر؟ وإجابة على السؤال نعود بالذاكرة إلى ما قبل حرب أكتوبر المجيدة، وتحديدًا بعدما أعلن الرئيس أنور السادات قراره بالاستغناء عن الخبراء العسكريين السوفييت فى مصر، بعدما صاروا عبئًا على البلاد بسكرهم الدائم وإشاعتهم روح الهزيمة بين المقاتلين، وكان رد فعل السوفييت أن تعنتوا فى إمداد مصر بما تحتاجه، من أسلحة حديثة وقطع غيار ووقود صواريخ، مما يعنى أن يصبح حائط الصواريخ خارج الخدمة، وتنكشف سماء مصر أمام أية طائرات مغيرة، واستحالة دخولها الحرب، فلا قيمة لحائط الصواريخ دون وقود يطلق الصاروخ، وكانت معضلة استنفر لها الرئيس السادات علماء مصر، واستجاب د.محمود سعادة ضمن من استجابوا لنداء الوطن، وانكب على الدرس والبحث، وتمكن خلال شهر واحد من فك شفرة مكونات الوقود، ورده إلى عوامله الأساسية ونسب كل عامل من هذه المكونات، فضلاً عن استخلاص 240 لترًا من الوقود الصالح للإستخدام، من الكمية المنتهية الصلاحية الموجودة بالمخازن، وأجريت تجربة للوقود الذى أنتجه وتم إطلاق الصاروخ بنجاح، وكانت مفاجأة صادمة للسوفييت الذين توهموا أن المصريين سيظلون فى حاجة إليهم، ما بقوا يسيطرون على امدادات قواتهم المسلحة، ولم يدركوا أن العقل المصرى يبدع وينتج عند الشدائد. وبفضل الله ثم اجتهاد د.محمود سعادة ورفاقه، كسبت مصر حربًا توقع الجميع أن تخسرها، وتمكن الدفاع الجوى بعدما توفر الوقود من إعادة حائط الصواريخ إلى الخدمة، وبعودة الصواريخ تم تدمير 326 طائرة اسرائيلية خلال حرب أكتوبر العظيمة.وإننى إذ أعيد التذكير بسيرة هذا العالم الجليل، لأرجو من الرئيس عبد الفتاح السيسى تكريم اسمه، إلى جانب من كرموا، فحرب أكتوبر لم يكسبها المقاتل وحده، وإنما ساعده على كسبها جنود مجهولون من أهل العلم، ومنهم د.محمود سعادة يرحمه الله. لمزيد من مقالات أسامة الألفى