كنت حريصا على حضور مناقشة رسالة ماجستير الزميل الكاتب الصحفى عمرو عبد المنعم هذا الشهر بآداب القاهرة (قسم تاريخ) وعنوانها:الفتوى وقضايا المجتمع المصرى فى النصف الأول من القرن العشرين، وخصوصا أن المناقشين فطاحل فى الفكر والتاريخ: المفكر والمؤرخ طارق البشرى وأساتذة الجامعة الدكاترة محمد عفيفى وسيد عشماوى وحورية مجاهد.لكن عارض الانفلونزا حال دون الحضور والاستمتاع. ولجدية الباحث وأهمية البحث ولأن القاهرة عرفت قبل أيام مؤتمرا دوليا كبيرا عن الفتوى تواصلت مع صاحب الرسالة وتفضل مشكورا بأن أمدنى بصفحات منها وبمواد أخرى. والأهم دار بيننا نقاش حول الفتوى والفتاوى والتاريخ والسياسة. وبداية لا بد من التنويه بأهمية إخضاع الفتوى والفتاوى والمفتين رسميين كانوا أو غير رسميين للدراسة العلمية فى صرح أكاديمى كجامعة القاهرة. ولأن رسالة دكتوراه للباحثة فاطمة حافظ جرت مناقشتها صيف هذا العام فى ذات القسم والجامعة نفسها عن الفتوى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر يمكننا القول بأن ثمة محاولات جادة ومرتبة لوضع الفتاوى فى مجتمعنا وتنزيلها فى سياق علم التاريخ ودراستها بضوابط العلم والتاريخ المنهجية والمعرفية. وحقيقة لا أعرف ما إذا كانت الجهود البحثية فى جامعاتنا تسمح بعد بتأسيس ما يطلق عليه (سوسيولوجيا الفتاوى) حيث يفترض ان تتحدد قراءة الفتوى فى سياق مجتمعى بمناهج وأدوات علمية. كما أننى بحاجة الى المزيد من النقاش حول مقولة أن الفتوى تصلح مصدرا للتاريخ. وهو أمر أظنه يختلف عن إخضاع الفتاوى ومؤسساتها ومفتيها وطالبيها وسياقاتها المجتمعية والسياسية والثقافية لعلم التاريخ. لكن بلاشك فإن دراسة تاريخ الفتاوى والافتاء والمفتين جهد يستحق التقدير والاهتمام. وهذا بصرف النظر عن مواقفنا وأحكامنا القيمية إزاء ماتجره فوضى الفتاوى وسلطانها على الناس فى مجتمعات ساعية الى التقدم والحداثة من مآس وكوارث. وأيضا خطورة الخلط بين الدينى والسياسى وتوظيف سلطة الفتاوى المقدسة فى صراعات السياسة سواء دعما لسلطة وشرعنه لاستبدادها وفسادها أو استخدامها ضد السلطة والمجتمع ، ووصولا الى تكفير المعارضين أو الحكام أو المخالفين فى الرأى والاعتقاد. وفى رسالة عمرو عبد المنعم صفحات عن كيف تناولت الفتاوى فى مصر النصف الأول من القرن العشرين مستحدثات التلغراف وصناعة الدخان والكوكاكولا وارتداء ساعة اليد والبرنيطة، فضلا عن فوائد البنوك وبيع الياصيب.كما تطرق نقاشى معه حول صراع الفتاوى فى مطلع القرن العشرين بشأن السكر الأحمر (قوالب السكر) أو ما كان يسميه المصريون (السكر الماكينة). كما فى الرسالة فصل عن الفتوى وأبرز القضايا السياسية كفلسطين والخلافة و الدستور والاحتلال الانجليزي. وفى ذاكرتنا الوطنية فتوى الشيخ عليش بمروق الخديو توفيق مع الحملة العسكرية البريطانية لاحتلال مصر عام 1882. وقد أصدر شيخ الإسلام ومفتيه فى الأستانة فتوى معاكسه بعصيان عرابي. والقصة معروفة. لكن رسالة الزميل عمرو عبد المنعم تكشف عن أن مفتى الديار المصرية فى عام 1910 رفض قرار المحكمة إعدام ابراهيم الوردانى قاتل بطرس غالى رئيس الوزراء المكروه شعبيا ووطنيا وصاحب مشروع مد امتياز قناة السويس وبعث للمحكمة برأى يميل الى دفاع الوردانى بايداعه مستشفى الأمراض العقلية. ومع هذا تم إعدام الوردانى باعتبار أن رأى المفتى للاستشارة ليس إلا. كما توثق الرسالة فتوى الشيخ الجيزاوى مفتى الديار المصرية ضد رغبة الاحتلال البريطانى اغلاق الأزهر حتى لاتخرج منه مظاهرات ثورة 1919. وتكشف عن ان اغتيال رئيس الوزراء النقراشى على يد جماعة الإخوان عام 1948 جاء بفتوى من الشيخ سيد سابق صاحب كتاب (فقه السنة)وبتوصية غير مباشرة من المرشد حسن البنا. ولقد توصلت نتائج الرسالة الى أن الفتاوى ذات الأبعاد السياسية والاجتماعية هى محل وجهات نظر متعددة وربما متعارضة. كما انتهت الى ان تأثير مؤسسة الافتاء الرسمية (دار الافتاء) كبير فى المعاملات والعبادات فى حين بقى دور المفتين الأهليين أقوى فى الجوانب السياسية مقارنة بالمؤسسة. ولقد اختار الباحث ان يبدأ الفترة الزمنية لرسالته بعام 1895 استنادا الى بدء تقنين وضع دار الإفتاء والاحتفاظ بسجلات فتاواها ،وذلك بمرسوم الخديوعباس حلمى الثاني.وانهى الرسالة عند عام 1952، أى مع زوال الحكم الملكى لأسرة محمد علي. وخلال هذه المدة الزمنية قام بدراسة تاريخ عشر شخصيات تتابعت على منصب مفتى الديار المصرية من حسونة النواوى الى حسين مخلوف. وجميعهم معينون من الخديو فالسلطان فالملك. ولقد استوقفنى فى النقاش مع الباحث اسم المفتى الشيخ عبدالقادر الرفاعى لأنه ابلغنى بأن الرجل لم يتول منصبه إلا ليومين ومات ولم يصدر فتوى واحدة. كما انه جاء مباشرة بعد انتهاء ولاية الشيخ المجدد محمد عبده عام 1905. وحول الشيخ الرفاعى قال الباحث إن الرجل كان مترددا فى قبول المنصب. وظل أسبوعين هيابا له مدركا لخطورة الافتاء والفتوى ولجلال لقب مفتى الديار المصرية. والله أعلم. [email protected] لمزيد من مقالات كارم يحيى