«أنا أفكر، إذن أنا موجود» هي العبارة الشهيرة التي اتخذ منها ديكارت أبو الفلسفة الحديثة أساسا لفلسفته، وبفضلها أصبحت زالأناس (الذات المفكرة) أساسا للفلسفة بداية من القرن السابع عشر. وقد عرضت في مقالة سابقة (انظر الأهرام، 10 سبتمبر 2016)لقصة ظهور الأنا كما رواها ديكارت فيما يشبه السيرة الذاتية، ورأيت أن القصة تصلح للمعالجة الروائية أو السينمائية، فهناك مشهد الفيلسوف الشاب إذ يلجئه برد الشتاء إلي غرفة مدفأة، ونراه جالسا بالقرب من النار وفي يديه ورقة ينظر فيها دون أن يخط عليها حرفا. وهو عندئذ ينعم بلحظة من الهدوء وصفاء الذهن فيستغرق في التفكير،فيم كان يفكر؟ نعلم أنه كان يمر بأزمة فكرية حادة ورغبة محمومة في التوصل إلي اليقين، ولنا أن نستتنج أنه كان يتفكر في الخطوات الموصلة إلي المعرفة اليقينية، ثم يأوي إلي الفراش فينام نوما متقطعا تتعاقب عليه ثلاثة أحلام أهمها الحلم الثالث والأخير الذي ترد فيه عبارة تؤكد حالة القلق والتأزم: زأي سبيل من سبل الحياة أسلك؟س ولكن الحلم أتي أيضا بانفراج الأزمة وفقا لتفسير ديكارت عندما استيقظ. فقد شاهد في الحلم كتابين: أحدهما كان قاموسا (دائرة معارف) انصرف عنه (عنها) إلي الكتاب الآخر، وكان مجموعة شعرية، ورأي ديكارت عندما استيقظ أن الحلم يشير عليه بأن يتبع طريق الشعراء، فهم أهل إلهام وحكمة. وتؤكد هذه المعاني بعض أقوال ديكارت التي وردت في كتاب زالتأملاتس فهو يذكر في هذا الكتاب أن من بين الأفكار الأولي التي خطرت له فكرة رئيسية مؤداها أن البناء المنظم الجميل هو الذي يشيده مهندس واحد، بدلا من البناء المؤلف من أجزاء مختلفة أسهم بها مهندسون متعددون، وأن عليه إذن أن يهدم كل ما تخلف من العصور السابقة بحيث يخلي الأرض لتشييد بنائه العلمي علي أساس متين. وهو ما يعني في الواقع أن تقويض مخلفات الماضي وإخلاء الأرض أمر لازم لعملية البناء التي تبدأ بالشك المنهجي، والتوصل من ثم إلي ذلك الأساس الذي هو قضية: زأنا أفكر، إذن أنا موجودس. ويبدو من الرواية الديكارتية لأول وهلة أن كل ما حدث جري في ظل الوحدة وبعمل إنسان واحد بمعزل عن تراث الماضي. وهذا ليس صحيحا؛ فالرواية نفسها تحرضنا علي التدقيق وتدفعنا إلي التساؤل عن طبيعة المخلفات التي أراد ديكارت أن يقوضها. ما هي كتب القدماء التي رأي الانصراف عنها لكي يلتمس الحقيقة عن طريق الشك والاهتداء بنور العقل؟ ديكارت صاحب ثورة، وليس من عادة الثوار ولا من طبيعة عملهم أن ينصفوا أسلافهم ويعترفوا بدينهم لهم. والغرض من هذه المقالة هو الكشف عن بعض أجزاء القصة التي أغفلها ديكارت، وتحقيق التوازن المنصف بين الاعتراف بأصالة ديكارت وعبقريته وبين دينه للماضي. وأنا أعتقد أنه مدين بصفة خاصة لابن رشد. التراث الذي ثار عليه ديكارت كان في الأساس فلسفة أرسطو كما تبنتها ودجنتها السلطات الكنسية وحرمت الخروج عليها كما حرمت الخروج علي الكتاب المقدس، ولكن ينبغي أن يضاف إلي ذلك أن تلك الفلسفة تلقتها أوروبا المسيحية في القرن الثالث عشر مترجمة إلي اللاتينية ومشروحة بقلم ابن رشد، وأن عملية التدجين استوجبها الشرح الرشدي الصارم الذي أظهر أن مذهب المعلم الأول ينتهي إلي نتائج لا تتفق والمعتقد الديني، ومن ثم تضمنت تلك العملية من بين ما تضمنت إلحاق النتائج المدانة بابن رشد، واتهامه بها، وتكفيره وشيطنته بسببها، والتخلص منه بحيث يمكن التعامل مع أرسطو بالطريقة المناسبة، ولقد كانت الاتهامات التي وجهت إلي ابن رشد كثيرة وأدرجت في قوائم مطولة، ولكن أفظع الاتهامات وأشدها إثارة لاهتمام المفكرين في تلك الفترة هو أن الفيلسوف العربي قال بوحدة العقل - أي أنه رأي أن هناك عقلا واحدا أو كليا للبشر كافة - وأن رأيه هذا ينفي تعدد الأفراد؛ فهم بمقتضاه لا يفكرون ولا يوجدون كل بمعزل عن الآخر. وذلك هو الرأي الذي نسبه القديس توماس الأكويني إلي ابن رشد وفنده في كتاب خصصه للموضوع تحت عنوان زوحدة العقل ضد الرشديينس؛ وذلك هو الرأي الذي جلب علي ابن رشد أشنع اللعنات؛ وهو الذي أثار في الثقافة الأوروبية المسيحية مخاوف وكوابيس لا تطاق. ويترتب علي ذلك أنقضية وجود الأنا لم يخترعها ديكارت، بل وجدها مطروحة ذ ومطروحة بشدة - للبحث والاستنكار. ويقتضي الإنصاف إذن أن نقول إن ابن رشد هو الذي طرح القضية بشدة وجعلها مثارا للحيرة والاضطراب، ولقد حاول القديس توماس الأكويني كما رأينا أن يفند فكرة وحدة العقل.ولكن من الواضح أن جهوده وجهود غيره من رجال الدين المسيحي لم تفلح في تبديد شبح العقل الواحد الذي أطلقه ابن رشد. فقد واصل أتباع ابن رشد اللاتينيون الدفاع عن نظرية وحدة العقل لثلاثة قرون، كما تواصلت الإدانات وازدادت عنفا. والواقع أن ابن رشد كان يدرك شناعة النظرية وأنه سبق القديس توماس الأكويني إلي نقدها وإبراز المشكلات الناجمة عنها، إلا أنه لم يرفضها بل تمسك بها. وهذا موقف عجيب، ولكن كان له ما يبرره في نظر ابن رشد،أولا، أنه كان يعتقد مخلصا وبعد بحث الموضوع بحثا مطولا أن النظرية هي أفضل شرح ممكن لرأي أرسطو الذي مفاده أن ثمة جزءا من النفس، هو العقل، مفارق للمادة وأنه من ثم واحد وأزلي، وبعبارة أخري نقول إن ابن رشد رأي ضرورة التمسك بتلك النظرية علي أن يتم إصلاحها وتعديلها، لأنه أراد أن يكون أمينا في شرحه لأرسطو،وثانيا، أن ابن رشد كان حريصا علي التقريب بين الفلسفة والإسلام، ورأي من ثم أن فكرة العقل الكلي الأزلي يمكن أن تكون حلا جزئيا لمشكلة خلود الروح، أو ما يسمي في الإسلام البعث. وكان ابن رشد يعتقد أن من الممكن تكملة النظريةبنظرية أخري تفي بما يقتضيه الدين من خلود نفوس الأفراد. وقد أورد ابن رشد هذا الحل الأوفي في كتاب زتهافت التهافتس وإن كنت أرجئ تناول هذا الموضوع في الوقت الحاضر. ولذلك صاغ ابن رشد قضية وحدة العقل وتهديدها لتعدد الأفراد علي شكل معضلة يمكن التعبير عنها مع قدر من التبسيط كما يلي، إذا افترضنا أن ثمة عقلا واحدا لكل الناس، كان ذلك معناه أنني إذا خطرت لي فكرة، فإن نفس الفكرة تخطر لك؛ وأنني إذا نسيت تلك الفكرة، فإنك تنساها؛ ويترتب علي ذلك أنني موجود بوجودك، وأنك موجود بوجودي، ومعني ذلك بعبارة موجزة أنني لا أستطيع أن أفكر أو أوجد بمعزل عنك، وأنني وأنت وجميع أفراد البشر شيء واحد؛ وهو أمر محال. والقضية مطروحة علي هذا النحو تمثل في نظر ابن رشد معضلة لا يمكن التنازل عن أي طرف من طرفيها. فليس من الممكن التنازل عن تعدد الأفراد، فذلك أمر لا يقبله العقل، كلا ولم يكن في وسع ابن رشد أن يتنازل عن فكرة العقل الواحد لأنه رأي فيها كما سلف تفسيرا أمينا لأرسطو، بالإضافة إلي أنها تفي بصفة جزئية بما يتطلبه الدين. وقد حاول ابن رشد حل المعضلة، وأوجد لها حلا بقدر ما استطاع، ولكنه لم يكن راضيا تمام الرضا عما توصل إليه، وترك للغير فرصة الإتيان بحل أفضل. وبإمكاننا الآن أن نري كيف كان تفكير ديكارت في قضية الأنا يجري في سياق فلسفي هو المعضلة التي طرحها ابن رشد، وكيف كانت عبارة زأنا أفكر، إذن أنا موجودس مخرجا من تلك المعضلة لأن ديكارت أسقط فيها فكرة العقل الواحد الذي يوجد خارج النفس، وهي الفكرة الذي لم يستطع ابن رشد التنازل عنها وبقيت تعرقل تعدد الأفراد، وبإسقاط تلك الفكرة أصبح الطريق مفتوحا أمام كل من هؤلاء الأفراد لكي يقول: زأنا أفكر (فلي عقل وحدي خاص بي) وأنا إذن موجودس. وتزداد العلاقة بين الفيلسوفين وضوحا إذ تذكرنا أن ديكارت لم يسقط تلك الفكرة تماما؛ بل أدرج ذلك العقل في نطاق وجود الفرد بدلا من تركه في الخارج،وذلك أن ديكارت رأي أن الفرد يتألف من شيئين كل منهما قائم بذاته أو زجوهرينس: نفس مفكرة وجسم مادي، وقد ذهب ديكارت إلي هذا التصور الثنائي لأنه أراد للنفس أن تكون مهيئة لمفارقة الجسم والخلود بعد فنائه، فهي توجد في داخله بصفة مؤقتة أثناء الحياة، ولكنها عند الموت تبعث، أو كما نقول في الإسلام زتصعد إلي بارئهاس. إلا أن التزام ديكارت بهذا التصور الثنائي يعني أنه كان حريصا حرص ابن رشد علي التمسك بعنصر روحي قائم بذاته ومن ثم قابل للخلود. وهو ما يعني أيضا أن ديكارت لم يتخلص تماما من تأثير ابن رشد. لمزيد من مقالات د.عبدالرشيد محمودى;