الجدل حول تعريف المثقف وأدواره فى مجتمعه وعالمه ليس جديداً، ولا رهين مرحلة تاريخية محددة منذ اطلاق المصطلح، ونشوء حقله والتنظيرات حوله، من قضية داريفوس الشهيرة وموقف أميل زولا، مروراً بخيانة المثقفين لباندا، وتنظيرات جرامشى، وايزا برلين وادوارد سعيد ونظرائهم وأشباههم فى الثقافات الأوروبية، ومن استعارات المصطلح من مهادة وبعض تطوراته فى التراث النظرى الأوروبى حول المثقف وأدواره. من هنا لا أجد غرابة فى اعادة النظر فى التعريفات، ولا الخطاب حول الأدوار، لأنه من الخطأ بمكان تصور نمط مثالى للمثقف - وتعريفه وأدواره - نشأ مرة واحدة وصالح للتطبيق رغم اختلاف السياقات التاريخية، وطبيعة المجتمعات ودرجات تطورها السياسى والثقافى والمعرفى والتقنى والاجتماعي. المثقف فاعل متطور وليس جامدا وساكنا أو غير قابل للتغيير والتأثر والتأثير فى المجتمع. من هنا اعادة النظر فى التعريفات مشروع نظرياً وتطبيقياً وتاريخياً، وكذلك الجدل حول الأدوار، الا أن الملاحظ أن الخطاب والأحرى الخطابات حول تعريف المثقف وأدواره فى الغالبية الساحقة من الكتابات والتنظيرات العربية على قلتها تستصحب معها تعريفات أوروبية، وتحديداً جرامشى الذى يتبناه ذوو الانتماءات الأيديولوجية اليسارية، وآخرون بعضهم ينتمى الى التيار الليبرالى أو القومى العربي. يلاحظ على هذا الاتجاه الغلاب أن بعضهم داخله يستعير المصطلحات - المثقف التاريخى والمثقف العضوى والمثقف الجماعى - دون التعريفات والمعانى التى حددها جرامشى فى هذا الصدد، وتحول لديهم مصطلح المثقف العضوى الى أيقونة تردد كجزء من التوظيفات البلاغية ومجازات تجميل الخطاب / الكتابة حول المثقف، وأدواره لاسيما فى مجال أدواره وضرورة ارتباطه بطبقة اجتماعية محددة دون تحديد سياقاتها وماهيتها فى بعض الأحيان. التعريف والمعنى الأكثر شيوعاً لدى بعض كبار المثقفين المصريين والعرب يتمثل تكوين وثقافة ووظيفة كبار المفكرين/ المثقفين فى مرحلة مطالع النهضة العربية حتى المرحلة شبه الليبرالية وفوائضها فى مرحلة بناء دولة التعبئة فى مصر، وعلى رأسهم رفاعة رافع الطهطاوي، وعلى مبارك، ومحمد عبده، ولطفى السيد وطه حسين، وعلى مصطفى عبد الرازق، وأحمد أمين والعقاد وعثمان أمين، ويوسف كرم، وسلامة موسى، وعبدالرحمن بدوي، وزكى نجيب محمود، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ولويس عوض .. الخ، وهم أنماط من مثقفى المرحلة شبه الليبرالية الكبار. يتناسى بعض هؤلاء أن هذه النماذج المثالية - وفق تنظيرات ماكس فيبر - متغيرة وفق تطور المجتمع وتحولاته السياسية والثقافية والمعرفية. من هنا ثمة اعادة انتاج واعية أو لا واعية للمثقف فى مرحلة النهضة المصرية والعربية غير المكتملة، أو المرحلة شبه الليبرالية فى مصر، أو مرحلة التحرر الوطني، ومن ثم يبدو أننا أمام تنظيرات مفارقة للواقع الموضوعى وتحولاته عموماً وفى حقل المثقف وأدواره فى مصر وعالمها العربى منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضى وحتى غزو الثقافة الرقمية وثوراتها الاتصالية ونظامها اللغوى والدلالى المتغير. من الملاحظ أن مثقفى المراحل السابقة لاسيما عصر التحرر الوطنى ودولة التعبئة والاستقلال، غالبهم لا يزالون أسرى ثقافتهم وتكوينهم وأدوارهم وآلامهم من الصراع مع السلطة الغاشمة فى هذه المرحلة، وتدور كتاباتهم حول دراما المثقف وتراجيديا الصراع مع التسلطية السياسية، والتسلطية الدينية، وديكتاتورية سلطة الأعراف والمواريث والمحرمات الاجتماعية، التى يقع المثقف ودوره ضحية لها فى مناقشة ونقد هذه التسلطيات على اختلافها، وفى محاولة تحرير مجتمعه ودفعه للانطلاق نحو التطور الاجتماعى والسياسى والتحرر الثقافي، ومحاولة اللحاق بالتحولات الكبرى فى عالمه المتغير والهادر بالاكتشافات العلمية والتقنية فى مختلف المجالات. قدم المجتمع المصرى - والعربى - المثقف قرباناً للسلطة الغاشمة فى عديد المراحل كى تذبحه أو تعتقله تحت شعارات التكفير الوطنى والتكفير الدينى والتكفير المذهبي، على نحو أدى الى افقار الثقافة والمجتمع والدولة والنظام من مواهبه اللامعة لاسيما اذا كانت تتسم بالجسارة والعقل النقدى المفتوح. الخطاب حول المثقف لايزال يركز على المثقف الورقى اذا جاز التعبير، ويتناسى ويختصر عملية تاريخية جديدة تتشكل جنينيًا وهى المثقف الرقمى الذى يتشكل الآن فى رحم الثورة الرقمية، ويبتدع عبر لغتها الجديدة خطاب التغريدات، واللغة الساخرة - أحد تجليات الشرط ما بعد الحديث - والمحاكاة الساخرة، واللغة والمجازات البذئية والجنسية والوقحة فى بعض الأحيان. مثقف لايزال فى طور التكوين وغائم فى نمو خلاياه. كما برز فى الانتفاضات الثورية، فى مصر وتونس وبعض دول المنطقة العربية. لايزال هذا الجنين موضعاً لرفض ونبذ بل واحتقار بعض المثقفين الورقيين له، واعتباره سطحياً ومبتذلاً وتافهاً واغفال أن مستقبل المثقف وحقله ينسج على نحو سريع من بين خلاياه الوليدة على الفضاءات الرقمية الهادرة بالتغير والتشكل والقطيعة مع ما قبلها من الرقميات والمجتمعات الفعلية. من ثم نحتاج الى النظر بموضوعية وعمق لهذه الظواهر الجديدة والمتغيرة دونما استعلاء أو اقصاء أو احتقار أياً كان واقعها الحالى الصادم لبعض المفكرين والمثقفين لأن ثقافة المستقبل ربما تبدأ حركة تشكلها ومعها فاعليها الآن على الواقع الافتراضى وفضاءات الحرية داخله التى يبدو أن لا حدود لها ثقافة العوالم الجديدة يبدو أنها تتجاوز مرحلة ما بعد الحداثة، ومن ثم يبدو أن قدرة الثورة الرقمية والتقنية الهائلة تحطم ما تبنيه، ثم تؤسس لما بعده، وهكذا على نحو سريع ومن ثم لم تعد مفاهيمنا ومناهجنا وأدواتنا الحالية قادرة على فهم وتحليل وتفسير وسّبرُ أغوار عالم سائل ومضطرب وهادر بالتغير السريع. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح