إن الفجوة الراهنة بين أنماط الحياة المابعدية الفائقة التطور وأسئلتها ومشكلاتها وتحدياتها تدفع بعض رجال الدين، وهم قلة قليلة جدا -من أديان سماوية وغيرها- إلى السعى الحثيث والجرى السريع وراء أسئلة اللحظة المراوغة والسائلة، والبحث عن إجابات لها، من خلال تجديد الرؤى والتفسيرات، واستخدام ثورة اللغة وفيها وبها فى مختلف فروع المعرفة من الفلسفة إلى السياسة إلى القانون إلى علم الاجتماع... إلخ، وذلك بحثا عن إجابات لأسئلة الإنسان الإيمانية وغيرها. سيستمر رجل الدين ودوره ما استمر التجديد فى الأسئلة والأفكار ومنظومات التأويل والتفسير، ومدى قدرته على التكيف مع تطور الأبنية المعرفية ومتابعة واستيعاب البحوث والدراسات الاجتماعية واللغوية والفلسفية، والتطور فى مجال العلوم الطبيعية، فى جسارة وإقدام، وبلا وجل أو خوف. إن التحولات التقنية والمعرفية العاصفة التى تجتاح عالمنا المعولم تحتاج إلى تطوير كبير فى نظم التكوين المعرفى لرجل الدين -الداعية والفقيه والمفتى- على نحو يجعله قادرا على تحليل وتفكيك الظواهر الجديدة، وتدفق الأسئلة المتلاحقة، وغير المألوفة، وبعضها قد ينطوى على شكوك حول النظام العقيدى، والقيمى، والطقوسى.. إلخ، وهى أمور من مألوف حركة الدين فى الحياة، وفى المجتمعات لا سيما فى ظل بعض الموجات الإلحادية التى تظهر بين الحين والآخر، وتحتاج إلى دراسة فى بنية الفكر الإلحادى، بالإضافة إلى تحليل لسوسيولوجية الظاهرة، والذين يتبنون أفكارها، وأعمارهم، وخلفياتهم الاجتماعية، وأعمارهم، وتكوينهم التعليمى والثقافى، وأسباب الظاهرة.. إلخ. إن الأمر لا يقتصر فقط على التعامل مع الأفكار المضادة للإيمان والعقائد، وإنما مع مشكلات، وظواهر الحياة الجديدة المعولمة، ومع نظريات علمية، واكتشافات كبرى تزلزل بنيات الأفكار السائدة فى مرحلة تاريخية ما، وفى مجتمع كونى ومواطن يتحول من الانتماء إلى دولة ومجتمع وثقافة ما إلى مرحلة المواطن/ الإنسان الكونى الذى يحتاج إلى خطابات وأفكار وتفسيرات جديدة تتلاءم مع طبيعة هذه التحولات الزلزالية الكبرى. من هنا تحتاج نظم التعليم والتكوين والتدريب إلى إصلاحات وتغيرات كبرى. من هنا نستطيع القول -ونرجو أن لا نكون مخطئين- أن ظاهرة التحول الدينى، والنزوع نحو الأفكار الإلحادية تشير إلى أن المتحولين لديهم من القلق الوجودى والأسئلة ما لا يجدون لها إجابات فى الخطابات الدينية والوعظية والإفتائية واللاهوتية والفقهية والكلامية السائدة فى السوق الدينية -وفق المصطلح السوسيولوجى-، ومن ثم يولى بعضهم نفسه ونظرته شطر أديان أو مذاهب داخل هذا الدين أو ذاك. بعضهم الآخر لا يجد لدى الأديان السائدة السماوية أو الوضعية إجابات، أو يقين ما يؤدى إلى تماسك وتوازن بنياتهم النفسية، ومن ثم تبدأ رحلة الشك الدامية والمؤلمة. يبدو أن ثمة اكتفاء من بعض رجال الدين بالإجابات الجاهزة عن الإيمان، والكفر ونتائجها، وعلى التعبئة والحشد للجماهير المؤمنة فى مواجهة هؤلاء الذين يشككون فى الإيمان المسيحى أو الإسلامى.. إلخ. هذا النمط من ردود الأفعال ربما كان فاعلا فى عديد العصور والعقود الماضية، وقد يستمر، ولكن إلى متى؟ دونما تجديد العقل الدينى والمذهبى داخله -أيا كان الدين أو المذهب-، وضرورة تطوير لنظم التكوين التعليمية لرجل الدين، وإعادة تكيف مؤسساته الرسمية أو اللا رسمية مع متغيرات وأسئلة عصرنا المحتدمة والمكثفة والانفجارية، نظرا للتطورات الرقمية والاتصالية والمعلوماتية فائقة التطور. إن استمرارية رجل الدين كوظيفة ودور رهينة القدرة على التكيف المعرفى، والقدرة على استيعاب الأجيال الجديدة، والإجابة عن أسئلتها، وتفهم قلقها وشكها ورغباتها العارمة فى الحرية والتغيير وضجرها من الأسئلة والإجابات القديمة المعلبة أو سابقة التجهيز. إن بعض رجال الدين من ذوى الهمة والجسارة والمعرفة العميقة بتطورات عصرها ومعارفة، تساورهم رغم إيمانهم بعض من هواجس المثقف وشكوكه وأسئلته، وبعض من قلقه، وهؤلاء يشكلون الطرف الفاعل فى الحوار مع المثقف وقلقه وهشاشته، والمثقف يمكن أن يكون منتج الأسئلة، والأفكار وناقدها الذى يستطيع عبر الحوار الفعال أن يحرك مع رجل الدين المجدد بيئة وسياقات إنتاج الأفكار التجديدية فى داخل السوق الدينية، وفى المجال العام على نحو يدعم المثقف مشروعات وأفكار التجديد الدينى من خلال الحوار البناء، والنقد الهادف. إن تفهُّم رجل الدين لمعنى ووظيفة المثقف وتكوينه المعرفى والنفسى ومقارباته وسعيه وراء النسبى بوصفه كذلك يمنح إمكانية لبناء الجسور الحوارية، لا توسيع الفجوات العميقة التى تؤدى إلى الحروب الباردة والساخنة بين المثقف ورجل الدين. إن تجديد أسئلة الإيمان وإجاباتها فى ظل التحديات العميقة التى تواجه المجتمعات العربية والإسلامية من ظواهر التكفير والعنف ذى السند الدينى والتأويلى وبروز الجماعات الإسلامية السلفية الجهادية -«القاعدة» و«داعش» و«النصرة» و«أنصار بيت المقدس».. إلخ- ونظائرها وأشباهها على نحو أنتج صورا جديدة وعنيفة وباتت نمطية حول الإسلام والمسلمين وعلى نحو سلبى. من هنا يبدو مهما وضروريا واستثنائيا حوارات جادة وعميقة بين المثقف ورجل الدين، لا سيما الفقيه والمتكلم/ المتفلسف المسلم واللاهوتى فى الإطار المسيحى. إن الحوار بين المختلفين هو أبرز ملامح ثقافة عصرنا المعولم وما بعد الحديث، عصر النسبيات والحقائق المتوافقة معها، وليس عصر الأبنية والسرديات الكبرى التى تآكلت وانكسرت بعض معالمها وأركانها. من هنا يشكل الحوار فى بلادنا ضرورة موضوعية وتاريخية بين المثقف ورجل الدين المستنير والإصلاحى، والحوار بين المثقف ورجل الدين أسهم فى تطوير الفكر الدينى الوضعى، وفى إثراء القيم والمعانى الدينية والأخلاقية، فى ظل المرحلة شبه الليبرالية والمجتمع شبه المفتوح على عالمه. إن بيئة الحوار والانفتاح قدمت بعض كبار المثقفين المصريين من خريجى الأزهر، والقضاء الشرعى وبعض أساتذة الشريعة فى كليات الحقوق. لا بد من استعادة هذا التقليد المصرى/ الثقافى التاريخى مرة أخرى، ونحن نتطلع للخروج من معتقلات العقل السلطوى الذى ران على حياتنا أكثر من ستين عاما مضت والسعى لبناء مصر الجديدة. تفهُّم رجل الدين للمثقف -والكثرة الكاثرة منهم مصريا مؤمنة- ووظيفته ودوره فى مجتمعة وعالمه مهمة، وكذلك الأمر على المثقف تفهم دور رجل الدين ووظيفته، وأهمية تطويرها مع متطلبات عصرنا، وعليه المساعدة الأمينة فى هذا الإطار. إن الحواجز النفسية والصور المسبقة بين المثقف ورجل الدين اتسمت بالسلبية، واعتبار كليهما نقيضا للآخر، أو منافسا له، فى حين أن كلا المجالين مختلف، وإن تقاطعا أو تداخلا فى بعض الأحيان والمستويات. إن نقاط التداخل الملتبسة والسائلة هى بذاتها التى يمكن أن تشكل أحد محاور الحوار الموضوعى والخلاق الذى يؤسس لقيم حوارية بناءة رائدها الفهم والاحترام المتبادل.