صدرت رواية عمار على حسن «جبل الطير» عن مكتبة الدار العربية للكتاب. وهى رواية ضخمة تربو على ستمائة صفحة، ولكن قراءتها كانت تجربة ممتعة لى، خصوصا لأننى مهتم بالتصوف الذى تنبنى على أساسياته أغلب أحداث هذه الرواية التى أشعر أنها تتميز عن غيرها من روايات عمار على حسن بالاكتمال والتناغم ووضوح الوظيفة البنائية للرواية جماليا- ابتداء من أولى صفحاتها إلى آخر صفحة. فالرواية تدور أحداثها حول البطل «سمحان» الذى يتدرج فى مقامات الصوفية إلى أن يغدو قطبا من أقطابها، له مريدوه وحلقة يقود فيها أتباعه من المتصوفة فى حلقات الذكر التى يعقدونها بوصفه قدوة لهم فى الخلق الرفيع وشفافية الروح والتنزه عن الدنايا والصغائر، فضلا عن الكرامات الصوفية التى لا يجد لها العقل المنطقى تبريرا مقنعا. ويروى السارد حكايته بوصفه راويا عليما بكل شىء ومدركا ما يتصدر الرواية من قول «الجنيد»، وهو صوفى بارز عاش فى القرن الثالث الهجرى: «إن الحكايات جند من جنود الله تعالى يُقوّى بها قلوب المريدين». وهكذا ندخل الرواية بأحد المفاتيح المهمة التى تعيننا على فهمها وفهم أوجه الصراع فيها. والوظائف التى تريد أن تحققها بواسطة الفن- على مستويات ذات أبعاد روحية واجتماعية وسياسية فى آن، فهى من الروايات التى تقف على نحو صارم منذ البداية فى وجه دعاة احتكار المعرفة الدينية أو ادعاء الإنابة عن الله سبحانه وتعالى. ولا شك أن دعوتها المضمرة إلى التسامح والمحبة والانتماء إلى الإنسانية تحتوى الأديان كلها وتنبنى على التنوع الخلاق الذى يصل بين البشر جميعا مهما تعددت أديانهم أو اختلفت مذاهبهم. والبداية هى «سمحان» القطب الذى وصل إلى درجة عالية من المعرفة الصوفية، وتكشفت له الرؤى على نحو يجعل منه أحد العارفين والمكشوف عنهم الحجاب. ولكن ذلك لم يحدث إلا بعد مكابدات روحية ومجاهدات نفسية، ظل يرتقى بها «سمحان» من درجة معرفية إلى أخرى حتى يصل إلى الدرجة الكبرى التى تجعل منه قطبا قادرا على الدفاع عن الصوفية دفاعا مجيدا ضد خصومها من السلفيين المتعصبين الذين لا يختلفون كثيرا عن كهنة المسيحية المتعصبين أيضا، والذين لا يدركون المعنى الجليل لعبارة «الدين محبة». والحق أن «سمحان» يتدرج فى مراتب المعارف عن طريق الكشف أو التجلى بعد مراحل «البوادة واللوامع» التى يرتقى بها الصوفى فى أثناء رحلته الشاقة عبر درجات سلم العارفين. ونراه نحن وهو يتدرج مارا بعديد من المواقف والرؤى والكشوفات التى يقوده فيها دائما شيخه «عبد العاطى» الذى لمح فيه ما ينبئ عن استعداده لأن يكون تلميذا نجيبا وقطبا عارفا. صحيح أن عبارة النفرى الشهيرة: «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»، هى مبدأ صوفى ثابت، وأظنه كان يمثل معضلة أمام الكاتب الروائى عمار على حسن فى السرد القصصى للمواقف الرؤيوية التى تكشفت فيها ل «سمحان» أبعادا حدسية لا نهائية، عابرة للأزمنة والأمكنة، ابتداء من أبعد نقطة فى التاريخ الفرعونى مرورا بالتاريخ المصرى وغيره من التواريخ التى تكشف عن أسرار الكنيسة بالقدر الذى تكشف به عن أسرار المواقف الصوفية التى تتجلى بها الحقائق المحجوبة عن الخلق أمام بصيرة صوفى مسلم، لا يعرف فرقا صارما بين كونه مسلما وكون غيره مسيحيا، فالكل عند الله سواء، والكل فى المحبة الصوفية إخوة وأزواجا. ولذلك ينجح عمار على حسن فى صياغة سردية لرؤى «سمحان» التى يوحى لنا بضيق العبارة عنها، لكنه يتجاوز الضيق إلى الاتساع المترامى للرؤيا عابرا بنا الزمان والمكان، وقد ساعده على ذلك معرفة معمقة بكتب التاريخ المصرى القديم بما فيها «الأدب المصرى القديم» لسليم حسن، و«الجبتانا أو أسفار التكوين المصرية»، ناهيك عن كتابات المقريزى، والعلماء الفرنسيين الذين كتبوا عن وصف مصر وبنية «المعبد» وجغرافيته فى مصر الفرعونية، فضلا عن ما كتبه هيرودوت وما كشف عنه جيمس هنرى بريستيد فى «فجر الضمير»، وجستون ماسبيرو عن «حكايات شعبية فرعونية»، وإريك هورنونج عن «أخناتون وديانة النور»، فضلا عن كل ما يتصل بالديانة فى مصر القديمة، وفضلا عن ذلك الكتابات التى تتصل برحلة العائلة المقدسة أو ساويرس بن المقفع عن «تاريخ البطارقة» أو حبيب جرجس عن «أسرار الكنيسة» ومعاجم الديانات والأساطير، وأخيرا ما كتبه الجازولى فى «دلائل الخيرات»، وأبو حيان التوحيدى فى «الإشارات الإلهية»، وابن عطاء الله السكندرى فى «لطائف المنن»، وغيرها من المصادر والمراجع التى اضطر عمار على حسن إلى الاطلاع عليها متمثلا منها وبفضلها، فضلا عن خياله الخلاق، المهاد الرؤيوى للأحداث وحركة الشخصيات التى تنتقل من الغفلة إلى المعرفة التى تجمع بين علوم الحدس وعلوم العقلوالنقل على السواء. ومن هذه المعارف كلها (وما أضنى الغرق فيها) تشكلت لدى عمار على حسن المادة الخام التى انطلق منها خياله الإبداعى ليصنع هذه الرواية المتميزة بحق، والتى تعد أكمل رواياته إلى الآن. فاضطراب الهدف والتمزق ما بين البعد الصوفى من ناحية، والبعد السياسى المرتبط بالتمرد على الاستبداد من ناحية موازية، شدخ البناء الموجود فى الرواية الموازية وهى «شجرة العابد»، لكن هنا الموقف مختلف، فالكاتب أصبح متمكنا من أدواته الروائية، مستعدا لبذل الجهد المعرفى الشاق، مفسحا العنان ليخلق بخياله عوالم سحرية تمتلئ بالعجائب والغرائب. وهو فى ذلك يتأثر بالقطع بالواقعية السحرية التى برز فيها كُتاب من أمثال: «جابرييل جارسيا ماركيز» صاحب رائعة «مائة عام من العزلة» التى ترجمت أكثر من مرة إلى اللغة العربية، والتى تعد درسا فريدا فى قدرة الكاتب على أن يبدأ من أعمق أعماق تراثه المحلى، غائصا فيها ليستخرج من كنوزه الخرافية، رواية أصبحت فتحا متميزا فى تاريخ الرواية العالمية. وهذا هو الاتجاه نفسه الذى سار فيه عمار على حسن، فقد مضى فى طريق مواز، فعاد إلى التراث الصوفى الذى يعرفه، ودرسه دراسة عميقة، فاستخرج من كنوز السرد والحكايات الموجودة فى كتب «كرامات الأولياء» ما صاغ منه رؤى إبداعية جديدة، لا تتردد فى إلغاء المنطق وحدود العقل والوعى الجامد لتحلق منطلقة بلا قيد فى عوالم «كرامات الأولياء» لتستخرج منها ما يعيد بناؤه الخيال الخلاق فيصنع من المادة الخام المتراكمة أبنية روائية جديدة لا ينبغى أن نحاسبها بالمنطق الأرسطى أو بالقوانين الصارمة للواقعية النقدية، بل نسلم أنفسنا لعوالم ما فوق الواقعية التى تقودنا إلى السحر الفنى للخرافات والأساطير،فتتحول الوقائع المألوفة إلى رؤى خيالية أو سحرية من الكرامات التى تتحرك فيها الجبال ويعبر فيها ذوو البصيرة البحار والمحيطات، متنقلين عبر الزمان والمكان، فلا شىء يحدهم ولا شىء يحول بينهم وبين معرفة ما لا يُعرف، وإدراك ما لا يدرك، فقد كُشف عنهم الحجب وخرجوا من عوالم الرؤية إلى الرؤيا، ومن مجالات البصر إلى آفاق البصيرة التى لا يصل إليها البشر العاديون منتقلين إلى عوالم الكشف التى ترفع أستار الواقع والمنطق وما يجاوزهما إلى الرؤى، مزودين بكنوز السحر التى لابد من قراءتها بمنطقها الخاص الذى لابد أن يشد القارئ المهتم، والقارئ الباحث عن المتعة الجمالية فى تجربة قراءة القص الخاص بهذه العوالم التى يختفى فيها جبل الطير، وتصبح «شجرة العابد» هى شجرة المعرفة التى تضىء كالنور الذى يشع كالمشكاة: «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاح ُفِي زُجَاجَةٍ، الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَد ُمِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ، لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، يكَاد ُزَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَم ْتَمْسَسْهُ نَارٌ، نُورٌ عَلَى نور ٍيَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ». (وللتحليل بقية) لمزيد من مقالات جابر عصفور