كل عامٍ ومصر التي انتصرت في أكتوبر بخير .. ورَحِمَ اللهُ مليوناً من أبنائها (أحياءً وأمواتاً) كانوا قِوامَ جيش النصر.. منهم من قضي نحبَه ومنهم من ينتظر .. لم يُجرموا في حق شعبهم ولم يسرقوا ولم يظلموا ولم يطلبوا لأنفسهم فضلاً ولا استثناءً وعاشوا يكابدون الحياة وتكابدهم.. ما مناسبة هذه المقدمة؟ المناسبة هي أن واحداً من المليون مقاتل شاء حظه وحظ مصر أن يجلس علي مقعد رئاستها فترةً استثنائية فجعل الاستثناء قاعدة واستمر جالساً علي هذا المقعد الوثير ثلاثين عاماً رتيبةً بالتزوير والظلم.. ولم يكتفِ بذلك بل بدأ يُمهد لتوريث المقعد (الجمهوري) لابنه.. فاقتلعه الشعب المصري بثورةٍ مجيدةٍ، وهي ثورةٌ ومجيدةٌ رغم أنف اللصوص والزبانية.. وكلما حلت ذكري النصر العظيم انطلقت أبواقه الإعلاميةُ العائدة تتهم الشعب بالجحود لأنه ثار علي واحدٍ من أبطال أكتوبر ثم حَبَسَه بعد ذلك، وهو نوعٌ من إلباس الحق بالباطل.. وقد وصلت حملة غسيل السمعة مدفوعة الأجر إلي ذروتها هذا العام بعد أن دانت لها السيادة الإعلامية (بأموالنا المسلوبة).. وإذ نشكر لأصحاب المعالي اللصوص تواضعهم أخيراً ووصفهم لمبارك بأنه أحد أبطال أكتوبر، وليس البطل الأوحد، فقد يكون من المناسب تحرير المسألة في وجه طوفان الأكاذيب الذي يتدفق علينا من الشاشات المباركية. أولاً: إن معركة بدر نفسها لم تمنع المُساءلة والمُحاسبة .. رغم أنها المعركة التي قال عنها الرسول عليه الصلاة والسلام (لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَي أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) .. وقد اتفق جمهور الفقهاء علي أن هذه البُشارة تتعلق بأحكام الآخرة، لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها .. وفي السيرة العديد من وقائع إقامة الحدود علي عددٍ من البدريين بعد هذا الحديث سواء في عهد الرسول (عليه الصلاة والسلام) أو خلفائه الراشدين (رضي الله عنهم). ثانياً: كاتب المقال يعتبر خلفيته العسكرية شرفاً لا يُدانيه شرف.. لكنه شرفٌ لا يشفع لي ولا لغيري إذا أخطأنا ولا يمنعُ مُحاسبتنا .. إنه شرفٌ لا يُعطي لصاحبه حقوقاً بقدر ما يُرتّب عليه التزاماتٍ وواجباتٍ، أبرزها الاستقامة التامة في السلوك بما لا يخدش هذا الشرف. ثالثاً: إن مُبارك لم يُحَاكَم بتهمة اشتراكه في حرب أكتوبر وإنما بتُهمٍ جنائيةٍ تصُبّ في خانةٍ مُعاكسةٍ تماماً لنُبْلِ هذه الحرب، وقد أُدين فعلاً في القضية اليتيمة التي تسربت إلي القضاء بسرقة 125 مليوناً من المال العام الذي اؤتمن عليه. رابعاً: لكن الأهم أن مُبارك نفسه لم يجعل حرب أكتوبر شفيعاً لمخطئٍ ولا برىء .. والمثالُ الواضح ما فَعَلَه مع واحدٍ من أنبل من أنجبت مصر .. الفريق سعد الدين الشاذلي الرأس المدبر والقائد الميداني لنصر أكتوبر العظيم وقائد مبارك نفسه، فلم يوقّر مبارك شيبته ولا قيمته ولا قامته ولا خلفيته العسكرية، فأدخله السجن الحربي وألبسه البدلة الزرقاء، في غير سرقةٍ ولا سَفهٍ ولا خيانةٍ، وحَرَمَه من مخصصات أوسمة الحرب التي قاد انتصارها، ونزع صورته من بانوراما حرب أكتوبر. خامساً: أما مسألة جحود الشعب المصري، فكبُرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً .. فالشعب المصري لم يكن جاحداً في يومٍ من الأيام، ولكنه علي العكس صَبَر علي مبارك بأكثر مما ينبغي وجعل اشتراكه في حرب أكتوبر شفيعاً له في كثيرٍ من الأخطاء في سنواته الأولي، ولكنّ للصبر حدوداً .. فالشعب لم يثُر عليه لاشتراكه في حرب أكتوبر ولكن لإهانته لشعب أكتوبر بمشروع التوريث وبتمكينه لعصابةٍ من مصاصي الدماء عاثوا في مصر فساداً واستبداداً، ولسماحه بالتزوير الفاجر حتي آخر انتخاباتٍ، ولتحطيمه قلعةً صناعيةً بناها سابقوه وبيعها في صفقاتٍ فاسدةٍ.. وعندما خلعه هذا الشعب المتحضر لم يفعل به كما فعلت شعوبٌ حولنا بمستبديها .. ولم يعامله بما عامل به هو معارضيه .. بل لم يقدمه إلي محاكماتٍ ثوريةٍ وإنما أحاله إلي قضاءٍ مدنيٍ .. وعومِل ولا يزال معاملةً راقيةً تليق بنا بأكثر مما تليق به. أخيراً: ليت الوجوه القميئة التي عادت تطل علينا تعود إلي جحورها و تكُفُ عن استفزاز الشعب الكريم وتأنيبه والمتاجرة بأعظم انتصاراته في العصر الحديث .. ليتهم يستغلون ما بقي لهم ولكبيرهم الذي علَّمهم السحر من أنفاسٍ في هذه الدنيا، في طلب المغفرة من الله والعفو من الشعب .. وعند الله تجتمع الخصوم. لمزيد من مقالات م. يحيى حسين عبد الهادى