أتحسس قلمي كلما سمعت دعوات التصحيح والتطهير والتأديب والإصلاح, مثلما كنت أفعل ونحن نغني أزهي عصور الديمقراطية! تخطئ الصحف كثيرا.. والسبب السلطة, وأحيانا قلة الذمة, وكلمات مطاطة تحتاج إلي تفسير وتفصيل, فالطوفان يتربص بالصحف القومية: إما أن تسبح بحمد المالك الجديد أو علي الأصح واضع اليد أو تغرق في ديونها, وتشتعل الفتنة بين أبنائها. أرادها صفوت الشريف أحذية في أقدام أسياده.. فلما سقط, يريدها أحمد إبراهيم كذلك. لم يدرك أحد أنها قومية, يعني للجميع, للشعب, حماية للوطن. ومنذ التأميم واسم التدليل للتنظيم علي طريقة الهزيمة التي سميت نكسة ونحن تحت وطأة الرقابة علي الصحف, لم يشهدها الجيل الجديد ولم يعرفها, وقد كانت مهينة: موظف حكومة يحضر كل مساء بملابسه المدنية يحضر ميلاد الجريدة, ويجيز أو يشطب, بتعليمات يحملها.. وأحيانا علي كيفه. وكنا نعرف الأخبار الخفية من كشف الممنوعات, ونعجب عندما يصر الرقيب علي إلغاء خبر صغير في صفحة الحوادث عن سرقة منزل في الزمالك, فنعرف أن السبب هو توصية من شقيقته الفنانة تخشي الفضيحة نصحوها بأن تلجأ لوزير الداخلية, رحمهما الله. وهو صديق لها ولأصحابها فلم يكذب خبرا, وقال: بسيطة.. اتصل بوزير الإعلام أيامها أطال الله عمره, فكان قرار المنع من النشر دون ضرورة قومية.. ولقد تكررت تلك القصة. راحت الرقابة وسنينها, لنقع تحت سيف مكتب الصحافة بوزارة الداخلية وهو تدليل لاسم أحد فروع أمن الدولة ينصب شباكه بالتهديد والإغراء فهو أيضا صاحب جواز المرور للترقيات. وإذا كان قد تواري, فلان, هناك وسائل أخري أكثر تقدما للتجسس والسيطرة. كانت الصحف القومية الحيطة المالية, والوحيدة, فلو أن الخبر منع من النشر, لا يري النور أبدا.. فلما صدرت الصحف الحزبية ثم المستقلة أصبح مستحيلا إخفاء أي واقعة لأنها سوف تنشر بعيدا عن القومية التي اضطرت هي الأخري للمنافسة حرصا علي مصداقيتها وتوزيعها.. فلم يبق إلا التوجيه والإخفاء أو الإبراز وتقدير الثوار بالعشرات أو بالمليون.. وبمقالات رأي تفوح منها رائحة الكذب. ولم يكن الانترنت قد عرف وانتشر.. ولم تكن محطات التليفزيون الخاصة قد عرفت طريقها للمشاهدين بما لها وما عليها. أصبح الحل حبس الصحفي إذا تجاوز أو تأديبا له.. ولم يصدق يوما وعد الحكومة, وحتي رئيس الجمهورية, بعدم حبس الصحفيين عما يكتبون.. ضاع الوزراء في الطريق, فلم يجدوا من ينقذهم عند الهجوم عليهم أو نشر إنجازاتهم التي لا تتحقق, فلجأوا إلي مال المعز في صورة إعلانات يغرون, ولا أقول يشترون, بها الصحفيين أصحاب الأجور المتواضعة.. وتلك قصة أخري. وأصبح لدينا مندوبون للوزارات في الصحف وليس للصحيفة في الوزارة. نشهد ونسمع عن إهانات الصحفيين في الوزارات وضرب أحد المصورين بالروسية داخل مجلس الشعب.. مع الإغراء بالسفر في الداخل والخارج بصحبة أصحاب المعالي وعلي حسابهم!! أصابتنا السنون بدماء فاسدة أو أنيميا حادة, فتدهورت المهنة. تحولت القومية إلي الحكومية, وبعد الدفاع عن مصالح عامة الناس, ساد النفاق لكل من يملك نفوذا أو مالا أو اتقاء لشروره. في ظل هذا المناخ ومع سنوات تحكمت فيها ادارات الصحف مؤبد ورئاسات لا تبقي في مواقعها إلا بسماع الكلام والصمت علي الفساد, فتراجع تأثير الصحف القومية, وفقدت الكثير من قرائها, وتراجعت حصيلة إعلاناتها, مع التراخي في تحمل المسئولية ماداموا ينالون الرضا السامي, من الأسياد.. وتراكم أعداد العاملين بغير ضرورة. وتزايد إصدار المطبوعات الخاسرة بغير تأثير وانهيار الأداء المهني لغياب دور الرواد امتداد مدارس مصطفي أمين واحسان عبدالقدوس ومحمد حسنين هيكل وجلال الدين الحمامصي وموسي صبري, ومحسن محمد.. وآخرون أجلاء مهما اختلفنا معهم. يأتي ذلك في الوقت الذي تنقض فيه رءوس أموال عجيبة. ولا أقول مريبة, علي سوق الإعلام.. بعد أن وجد رجال الأعمال أن ملكيتهم للإعلام تحميهم بهجت وأبوالعينين وساويرس وراتب والأمين وسليمان وعامر وشركاء من الباطن. فهل كان يمكن أن يحظي هارب مثل حسين سالم بتلك المساحة الإعلامية ليقول كل ما يريد.. ومن قبله صاحب عبارة الموت المقيم في لندن.. أو هشام طلعت مصطفي عشية محاكمته في جريمة قتل؟ وهل كان يمكن أن تهب تلك الهجمة الشرسة بفتاوي دينية مريبة علي قنوات عديدة كأنها الحق المبين؟ وكأن التاريخ يعيد نفسه. خرج علينا الدكتور محمد مرسي المرشح رئيسا للجمهورية عن حزب الأغلبية الحرية والعدالة الاسم المدلل للاخوان المسلمين ويتهم الاعلاميين دون أن يسميهم ويقول بأن لديه دليلا علي تقاضي البعض منهم أموالا أي رشاوي من جهات أجنبية لم يحددها, نفس أسلوب صلاح سالم وزير الإرشاد القومي في بدايات ثورة يوليو, عندما أعلن عن قائمة بأسماء صحفيين تقاضوا مصروفات سرية, وكان من بينهم مشاهير ومحترمون أرادوا عقابهم ليطالبوا بالتطهير والتطوير علي طريقتهم.. وتتكرر الحركات نفسها. منذ أيام أصدرت لجنة الثقافة والاعلام بمجلس الشعب والشيوخ بيانا يفتح ملف فساد الصحف القومية باتهامات قديمة أو غير دقيقة تمهيدا للتطهير والتطوير.. كل علي هواه!! ويطالب مجلس الشعب الحالي سيادة اللواءوزير الإعلام بالتدخل لضبط الأداء الإعلامي يعني إيه؟.. ولا بأس من ديباجة تقول إن مجلس شعب الثورة مع حرية الصحافة والاعلام!! يبدو أن الاصلاح ليس لوجه الوطن, فالأصوات العالية والاتهامات الجزافية والشروط المضحكة لاختيار قيادات الصحف القومية لاتخفي أنياب الذئاب. فعلها الحزب الوطني سنوات طويلة فجعلها دستورا ونموذجا لأداء الإعلام القومي. بينما القضية الأساسية هي استعادة الكفاءة المهنية واحترام وحرية الصحفي فكريا وماديا, ووضع حد واقعي لنزيف التعثر الاقتصادي, وإعادة النظر في مطبوعات كثيرة لا تؤثر ولا تسلي ولا توازن مصروفاتها, وكأنها وجدت للتباهي بمملكة واسعة من الإصدارات وسبوبة خفية لأصحاب الحظوة والدلال. يريدون ترويض الإعلام أو بيعه بالمزاد, أو إغلاق أبوابه, أو كلام كثير عن غير خبرة.. فينتهي الأمر بحكاية الدبة التي قتلت صاحبها.. ثم جلست تبكي! وإذا أخذنا بوثائق ويكيليكس لعرفنا أن السفير الأمريكي الأسبق في القاهرة رتشارد دوني اعترف بأن بلاده تسعي لخصخصة الصحف القومية وبيع الاذاعة والتليفزيون الحكومي لهدف نبيل!! هو تطوير الديمقراطية في مصر.. ومن أجل ذلك خصصت أمريكا ستة عشر مليون دولارا لبرنامج تلك الخصخصة. وعلي أيام جورج بوش الابن تحمست ليز تشيني ابنة نائبه ديك لتشجيع وتمويل وتدعيم مؤسسات إعلامية مصرية قطاع خاص ضمن برنامج نشر الديمقراطية علي الطريقة الأمريكية!!.. بما في ذلك تعديل البرامج التعليمية!! ألم أقل لكم إنه كلما كثر الحديث عن تطوير الإعلام وتطهيره أتحسس قلمي مثلما كنت أتحسس رقبتي عندما يشدد الحكام علي توفير الحريات!!