عاشت تونس على مدى الأيام القليلة الماضية صداعا كان عنوانه «بتروفاك». فالناس في المقاهي والشوارع تتحدث عن تداعيات وأسباب قرار هذه الشركة البريطانية العاملة في مجال النفط والغاز مغادرة تونس. والعديد من الصحف المحلية صدرت بعناوين رئيسية عن الأزمة وعشرات برامج التلفزيون الحوارية المسائية ناقشت تداعياتها على الاستثمار الأجنبي والاقتصاد التونسي . أربعة أيام انشغل فيها التونسيون «ببتروفاك», وهي تلك الفاصلة بين اعلان قرار الشركة مغادرة البلاد «نهائيا» وبين توصل حكومة يوسف الشاهد الجديدة الى اتفاق يمهد الطريق للعودة عن هذا القرار . .وهكذا الى حد أن سيرة «بتروفاك» عند المواطنين العاديين طغت على بورصة التخمينات بشأن كيف سيكون موقف الشاهد من قرار حزب «نداء تونس» توليه مسئولية رئيس الهيئة السياسية بالحزب ؟.. وهل سينجر رئيس الحكومة الجديد الى مستنقع الانشقاقات فى هذا الحزب المأزوم ، خصوصا أن قيادات فى الحزب هددت بانشقاق جديد واتهمت «حافظ» نجل الرئيس الباجى قايد السبسى بالدفع بهذا القرار؟ . بل ان الانتقادات العلنية لما تلخصه عبارة « توريط الشاهد رئيس حكومة الوحدة الوطنية فى وحل النداء» صدرت من وزراء فى حكومته أيضا. وأزمة شركة النفط البريطانية العاملة فى جزيرة «قرقنة» قرب مدينة صفاقس هى مع كل هذا أطول من عمر حكومة الشاهد، الذى بالكاد تجاوز الشهر الواحد . والشركة توفر ما نسبته نحو 12 فى المائة من احتياجات تونس من الغاز الطبيعى وتعمل على استثماره هو والنفط فى البر ومياه البحر وللدولة نصيب من الشراكة فى رأس المال والملكية مع المستثمر البريطانى . لكن نقطة التحول فى علاقة الشركة بتونس جاءت مع احتجاجات أهالى المنطقة فى فبراير الماضى زمن حكومة الحبيب الصيد مطالبين بفرص عمل وتثبيت العمالة المؤقته و بأن تسهم الشركة فى مشروعات تنموية تحتاجها الجزيرة. وقد تصاعدت الاحتجاجات حينها الى أحداث عنف ومواجهات مع الشرطة . وأسفرت الى يومنا هذا عن انسحاب قوات الأمن من الجزيرة فيما بقى اعتصام العاملين والأهالى على نحو أوقف الانتاج . ودخلت الأزمة بين أهالى قرقنة وادارة الشركة البريطانية مرحلة «عض الأصابع» وبدا أن طرفى الأزمة الرئيسيين يضغطان بخطوات تصعيدية لإجبار الحكومة الجديدة على ان تمنح الأزمة أولوية على جدول انشغالاتها الاقتصادية الثقيلة والعديدة . لكن ماجعل قرار الشركة مغادرة البلاد وتشديدها على وصف هذه المغادرة ب «النهائية» يصبح أولوية الأولويات عند الرأى العام هنا هو أربعة أسباب : الأول ان القرار جاء بعد أيام معدودة لاتتجاوز الأسبوع الواحد على تمرير البرلمان قانون استثمار جديد يمنح تسهيلات غير مسبوقة لرأس المال الأجنبى . والثانى أن رئيس الجمهورية السبسى كان لحظة اعلان قرار الشركة يسوق فى نيويورك لملف الاستثمار الاقتصادى فى تونس . والثالث أن تونس والتونسيين منشغلون بالاعداد لمؤتمر دولى لدفع الاستثمار فى بلدهم ينعقد بتونس يومى 29 و30 نوفمبر المقبل . وهو مؤتمر تم دعوة 71 رئيس دولة وحكومة للمشاركة فى أعماله فضلا عن مئات من الشركات ورجال الأعمال الأجانب . وهذا بهدف ضخ استثمارات اجنبية لتمويل خطة انقاذ اقتصادى طموحة تتكلف 60 مليار دولار على مدى خمس سنوات .وتستهدف رفع معدل النمو من أقل من واحد فى المائة الى خمسة فى المائة .وبالتالى الرهان على توفير فرص عمل لنحو 400 ألف تونسى من بين أكثر من 700 ألف يعانون البطالة حاليا . وعلما بأن معدل البطالة قد فاق نسبة الخمس عشرة فى المائة .أما السبب الرابع فيمكن ان يستشفه المراقب فى العاصمة التونسية من حرب اتهامات وتلميحات لأحزاب وقوى سياسية قيل إنها زايدت على قضية أهالى قرقنة ودفعت مواقف المعتصمين ضد الشركة الى التصلب والاستعصاء. اللافت أن وسائل الإعلام التقليدية بما فى ذلك أبرز الصحف انفجرت بخطاب أشبه ب «جلد الذات» عن غياب «ثقافة العمل» عند التونسيين والغلو فى الاعتصامات والاضرابات والاحتجاجات الاجتماعية بعد ثورة يناير 2011 . وصبت عناوين رئيسية وافتتاحيات جام غضبها على أهالى ومحتجى «قرقنة» واتهمتهم بالتسبب فى نفور المستثمرين الأجانب من القدوم الى تونس فى ظروفها الإقتصادية بالغة الصعوبة .وكان الشاهد قد حذر عند منح حكومته ثقة البرلمان نهاية شهر أغسطس الماضى من أن الوقت اصبح عاملا ضاغطا و على التونسيين ان يتجرعوا «اجراءات مؤجعة» لمعالجة استحقاقات الديون الخارجية و عجز ميزانية الدولة قبل يناير المقبل . وفى هذا السياق تأتى بعثات صندوق النقد الدولى المكوكية الى تونس لانجاز قرض جديد قيمته 2,9 مليار دولار على أربع سنوات . ولعل قرب عودة بعثة الصندوق الى تونس خلال الأيام القليلة المقبلة يضيف سببا خامسا يجيب عن السؤال : لماذا اصبحت أزمة « بتروفاك» صداعا لاتحتمله الطبقة السياسية والاقتصادية المتنفذة فى البلاد ؟ وعلى أى حال ، فقد كرست حكومة الشاهد جهدها على مدى الأيام الأربعة التالية لقرار الشركة مغادرة تونس للتفاوض مع المحتجين وأهالى قرقنة .واستثمرت سياسيا فى انها تضم وزيرين محسوبين على مواقع قيادية سابقة فى الاتحاد العام للشغل (العمال) وانها تحظى بدعم غير مباشر من الاتحاد الذى يعتبر بحق كبرى مؤسسات المجتمع المدنى فى تونس ويتمتع بثقل ونفوذ يستمدهما من تاريخه الوطنى زمن الاستعمار الفرنسى ومن لعب ادوار سياسية غير مباشرة بعد الاستقلال. وهكذا استطاع وزير الشئون الاجتماعية محمد الطرابلسى والناطق الرسمى باسم الحكومة إياد الدهمانى وهما محسوبان أيضا على اليسار بعد مفاوضات ماراثونية فى قرقنة مع ممثلى المحتجين من توقيع اتفاق الجمعة الماضى لانهاء الاعتصامات مقابل التزام الشركة بالتوظيف الدائم للعمال على مدى ثلاث سنوات واقامة صندوق لتنمية الجزيرة بتمويل قدره نحو 2,5 مليون دولار واقامة مشروع لتحلية مياه البحر. وهذا فضلا عن عودة قوات الأمن الى الجزيرة وانهاء اى ملاحقات أمنية أو قضائية لسكانها المحتجين على خلفية المواجهة مع الشركة والأمن . وهكذا زفت جريدة «المغرب» التونسية الأكثر تأثيرا بين النخبة توقيع الاتفاق فى عنوانها الرئيسى : «انتصار لتونس وانصاف لقرقنة». ولكن اللافت ان لهجة الإعلام التقليدى المملوك فى معظمه لرجال الأعمال سرعان ما تحولت بين لحظة وضحاها من النقمة على أهالى قرقنة الى امتداحهم . ومن «جلد الذات» الى التغنى بخصاله وفضائله . وفوق هذا وذاك انتقل اللمز والغمز فى قناة الاتحاد العام للشغل وتحريضه للعمال على تصليب مواقفهم وتصعيد احتجاجاتهم الى امتداح الاتحاد ودوره فى مفاوضات التوصل الى اتفاق «بتروفاك» ،ناهيك عن منحه الحكومة الجديدة فسحة من الوقت بتعليق العديد من الاضرابات المقررة سلفا. وهكذا بدا ان صداع «بتروفاك» يجد دواءه .والآن ينتظر التونسيون اعلان الشركة البريطانية التراجع عن قرار المغادرة .