اختار الكاتب والشاعر أحمد الشهاوى فى كتابه (نوّاب الله) أسلوب الكيّ مفضلا إياه على الطبطبة والتلطيف، واختار التصريح على التلميح، فى كشفه الغطاء عن مناطق قاتمة مظلمة فى تاريخ الحضارة الإسلاميّة, من حرق العباد والتنكيل بهم، إلى الإغراق فى الماء، وحرق الكتب، والاغتيال طمعا فى الحكم، والمتاجرة بالدّين، وقصور الخلفاء التى امتلأت بالجوارى والمحظيّات، وحملات التكفير وتأليه الفقهاء والعلماء، والرقابة العمياء على الإبداع والاجتهاد. لكن لماذا اختار الشاعر أن يضع يده على تلك المناطق القاتمة من الحضارة الإسلامية؟ّ!. ذلك لأنّ واقع الحضارة الإسلامية اليوم واقع مأزوم مهزوم وجملة أسباب ما فيه من أزمات وهزائم وإخفاقات ليست جديدة، بل قابعة فى أركان مظلمة، من حرق الكتب والبشر إلى الممارسات الداعشيّة المعاصرة ومن مطاردة المتكلمين والمجتهدين بالقتل والتنكيل والتكفير فى الماضي، إلى الرقابة والتشريد والاغتيال فى الحاضر. ولا يكون الخروج من الأزمة بالتمنّى ولا بالتغنّي، بل بالنور الذى يقع على تلك الأركان فيكشف ما فيها ويعين على فهم جذورها وطرائق الخلاص منها ومن تبعاتها. تقيّحت جراح الأمّة ولا سبيل إلى برء قبل تطهيرها من الصديد – على كراهة منظره وقبح رائحته. فى كتاب الشاعر أحمد الشهاوى - الذى صدر عن الدار المصرية اللبنانية - فقرات نابضة آسرة فى مديح الخيال الذى يلازم الإبداع، ويحرّض على القراءة والتدبّر والدأب والمثابرة، ويرفض الخنوع ويرفض التقليد الأعمي، ويخلص للحق والحقيقة. وفيه فصول وإشارات إلى مشاهد قاتمة فى تاريخ الحضارة الإسلامية فى مطاردة الإبداع والتربّص بأصحابه. وفيه إلى ذلك كلام عن الكتابة: الكتابة التى لا نفع فيها ولا غناء، والكتابة التى تغيّر وتثمر وتلد. ولا يتوارى الكاتب القارئ وراء الكنايات والتوريات، بل يعرب عن نفسه – وهو الذى يؤمن أنّ «القلب حرّ والنفس حرّة والروح واليد التى تكتب والمطبعة والمكتبة حرّتان. والذى يكتب ولد فى مستشفى الحرية، ورضع لبن الحرية. ووضع أى حدود أو اشتراطات هى الإهانة بعينها، وهو العقاب الذى ينول بالحبر الذى اعتاد أن يتدفّق فى مسيل ذهب الكلام». ليس فى كتاب الشاعر أحمد الشهاوى انتهاك محرّمات ولا تعطيل فرائض ولا تشكيك فى ثوابت الإسلام؛ إلا إذا كانت مواجهة الذات بمقابحها، وكشف المستور، والتأصيل للرذائل التى شوّهت وجه الحضارة الإسلاميّة ومجابهة نزوع المسلمين إلى تصنيم البشر وتأليههم تدخل كلّها وما شابهها فى باب المحرّمات. كتاب (نوّاب الله) أبدعته أنامل شاعر، فلا تكاد تفارقه الاستعارات الناجزة والصور البليغة، منها «تربية عضلات الجهل» و«لابس الدّين» ومنها نزوع تيارات الإسلام السياسى إلى «الدعاية لا الدعوة» وتحوّل واحد من أقطاب تلك التيارات ومنظريها الكبار من «القُبلة إلى القنبلة»: أى من شعر غزلى يحفل بالقبل لم يلق الحفاوة ولا الشهرة إلى تجهيل المجتمع والدعوة إلى ردّه إلى صوابه ولو بالعنف. ووراء الكتاب عقل باحث قارئ، يعود إلى المراجع والمصادر ولا يكتفى بالانطباعات الشخصيّة والمقولات العامّة المرسلة والأوهام الدارجة. ولابدّ أن كلّ قارئ سوف يجد ما يختلف معه فى الكتاب، وقد يقلقه أنّ الشاعر لا يرى إلّا «النصف الفارغ من الكوب» – بل الأقرب إلى الصواب «النصف المملوء دمّا وقيحا ورمادا» – لكنّ أحدا لا يستطيع أن ينكر عليه محبّته وطنه ومنافحته عنه فى وجه «التكفير والتفسيق» والتمزيق، وفى وجه من قرّروا - من تلقاء أنفسهم أو بتصديق الدهماء دعاواهم - أن ينوبوا عن الله وأن يضفوا على ذواتهم المنقوصة صفات القداسة؛ ودفاعه عن الخيال والإبداع وفضيلة الكتابة والقراءة والتفكير والحوار الراقى والمحاجّة بالمنطق والبراهين. (نوّاب الله) كتاب صادم، وحجر كبير فى بركة راكدة آسنة يقول بلا خوف إنّ الخلاص من محن الحاضر لا يكون إلّا بالاعتراف بخطايا الماضي، ومن ثمّ تجاوزها. الكتاب: نواب الله المؤلف: أحمد الشهاوي الناشر: الدار المصرية اللبنانية 2016