«مواليبو على الأمين مزروعي» من القامات الفكرية المعدودة فى قارة أفريقيا،فهو عالم موسوعى كيني، من أصول عربية عمانية، ولد فى مدينة «مومباسا»بكينيا فى 4 فبراير 1933، ورحل فى 12 أكتوبر 2014، وكان مثالا لثبات الأفكار التى أكسبته مكانة عالمية، وتوفى فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، لكنه دفن حسب وصيته فى مقابر عائلته بمدينة مومباساالكينية. درس «مزروعي» فى مدارس مومباسا ثم حصل على البكالوريوس من «جامعة مانشستر» البريطانية فى 1960، والماجستير من «جامعة كولومبيا»الأمريكية 1961،والدكتوراه من «جامعة إكسفورد» عام 1966فى موضوع عاش حياته لتحقيقه وهو «الوحدة الأفريقية». ويمثل هذا المفكر المزروعى العنوان الأبرز للثبات على الأفكار التى عرف بها طيلة حياته، والقضايا المحورية التى شغلت باله طوال حياته، مثل الروابط التى تجمع العربى والأفريقى فى جسد واحد، ونادى بالوحدة بين شمال القارة والجزيرة العربية وجنوبها عبر الروابط الحضارية التى جمعتهامنذ القدم، مثل الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا والهم المشترك، لمواجهة الرؤى الغربية التى تسعى للهيمنة على قارة أفريقيا، وظل يؤكد دائما على تماثل الثقافة العربية والأفريقية،بعيدا عما فعله الاستعمار الذى بذل جهودا لانتاج هوية أفريقية تنطوى فى باطنها على تصورات سلبية نحو العرب، مثل العنصرية العربية،مثل استرقاق العربى للأفارقة، وعمل جاهدا على توضيح الفارق بين العنصرية والاسترقاق التى مارسها الإنسان الغربى طيلة وجوده ونهبه لثروات الأفارقة،على رأسها الإنسان الأفريقى ذاته، مستهدفا بدنه وعقله فى آن واحد، وخلص إلى أن اختلاف ظاهرة الرق العربية عن الغربية كثيرا، على الاقل إذا قورنت بسياسات التمييز والعنصرية التى أبرزت الوجه الحقيقى للاستيطان الأبيض فى القارة السمراء، وتعد «جنوب أفريقيا» مثالاً حياً لمن يريد أن يتيقن من ذلك. وتناول مزروعى حال «النخب الأفريقية» و«آباء الاستقلال»موجها حديثه للشعوب الأفريقية، بأن الولاء للنخب والقادة يجب أن يكون محسوبا، وليس مطلقا، لأنهم ليسوا آلهة، ولديهم أخطاء عظيمة، بل ذهب لانتقاد القادة علناً،ووجه حديثه إليهم منتقدا كل الأيديولوجيات التى تبناها هؤلاء الحكام بداعى التنمية، وهو أمر لم يحدث على الأرض، ووصفهم بالفاسدين لأن الاستقلال الحقيقى لم يتحقق ومعاناة الأفارقة ممتدة، ولم يحدث ما يدعو للتهليل لهم،بل إن الواقع يشير إلى المزيد من إراقة الدماء والصراع للوصول إلى كرسى الحكم، على جثث الشعوب الأفريقية، ومازال التخلف والفقر والمرض موجودا وبنسب متفاوتة،ودعا إلى إعادة استعمار القارة من خلال القوى الإقليمية الأفريقية لتحقيق الاستقلال الحقيقي، وذاتيا يأتى بعده التكامل الأفريقي،وينطلق سياسيا ثم اقتصاديا بعد ذلك. لذلك أفصح المفكر الأفريقى عن رفضه التام كمثقف للأفكار الاشتراكية التى يراها نظرية غربية ولدت بالخارج وتم استيرادها على غير فهم منا للتطبيق فى مجتمعاتنا الأفريقية،وانتقد كوامى نكروما مؤكدا أنه كان مخطئا فى تحديد أولوياته. كما رفض أيضا الليبرالية الغربية المتوحشة امتدادا لأفكاره التى ترفض النماذج المستوردة،ودعا إلى ليبرالية أفريقية معتدلة، واشترط أن تكون نابعة من الداخل الأفريقي، وكافح لمواجهة كل الأفكار الغربية التى تكرس لأن القارة الأفريقية بلا تاريخ،وذهب إلى أن ما كتب عن القارة بأيدى الغرب هو تاريخ مزيف ولم يهتم إلا بأنشطة الرجل الأبيض بالقارة، لذلك انطلقت رؤيته للتاريخ الأفريقى من ثلاثة مسارات، أولها «تراث الكيانات الأفريقية الخالص»، و«التراث الإسلامي»، ثم «تراث الغرب والاستعمار»، ويقصد به المسيحية فى القارة، وساهم فى كتابه «موسوعة تاريخ أفريقيا». وتحدث مزروعى أيضا عن «الآثار السلبية للعولمة» على القارة الأفريقية، لأنه يرى وعلى الرغم من قدم الظاهرة من وجهة نظره، إلا أنه يرى أن فيها جوانب إيجابية يتمتع بها الفائزون، وجوانب سلبية يشتكى منها الخاسرون، وقدم أدلته على قدم الظاهرة من خلال العولمة المسيحية فى البداية ثم عولمة الاسلام بعد ذلك ثم عولمة الثورة الصناعية التى لعبت دورا مهما فى تقدم الغرب وتخلفنا، ومع التكنولوجيا وثورة المعلومات أصبحت الولاياتالمتحدةالأمريكية بالأساس ومعها الغرب هم أسياد العالم، وعن مواجهة هذه الظاهرة كانت كلماته حاسمة بالاعتماد على النفس فى مجتمعاتنا الأفريقية والعربية، والتخلص من الصراعات حتى يمكننا مواجهة آثار العولمة والاتجاه نحو جنى الآثار الإيجابية لهذه الظاهرة. وكانت له دعوة أخيرة تأخذ شكل النصيحة بأن نتمسك بكل قوة بالأمم المتحدة على الرغم من كل عيوبهاوتحدث أيضا إلى الرئيس أوباما مطالبا إياه برفع وصاية الولاياتالمتحدة عن هذا التنظيم الدولى للقيام بدورها كحكم بين جميع الدول، وكان يرفض فكرة أن يصبح العالم قرية واحدة حتى مع كل الوسائل التكنولوجية الحديثة مؤكدا أن ذلك من الممكن أن يحدث مع التوزيع العادل للثروة وبنظرة المحلل السياسى دعا مرة أخرى إلى اعتماد جنوب العالم على نفسه وعدم الانتظار أو التعويل كثيرا أو الاعتماد على العطايا من شمال العالم المتقدم. وعاش حياته فخورا بالهوية الأفريقية وعروبته واسلامه، وانتقد التشدد الإسلامى والظاهرة الإسلاموية رافضا التطرف الذى لا يعكس الوجه الحقيقى للإسلام الوسطي، ودعا دول العالم الإسلامى والشعوب الإسلامية على الرغم من تفهمه لاختلاف طبيعة هذه الدول إلا أنه صاغ حوارا واحدا للدول الإسلامية يؤكد فيه على دور بارز للمجتمع المدنى والحرص على العلم والاهتمام بالعلماء واعتماد برامج لتبادل الزيارات لإبراز وسطية الإسلام داعيا أن نكون على نفس التقدم الذى أحرزناه فى العلوم الإنسانية مشيرا إلى أن يهود العالم أنشط منا وأكثر حرصا فى التميز العلمى رافضا المحاكاة التى تدعو للبغض والكراهية. مات على مزروعى تاركا لنا إرثا وفكرا تنويريا يعكس لنا حلم الوحدة الأفريقية العربية،وإسلاما وسطيا يتسلح بالعلم ومواجهة التطرف والعنف الذى ارتبط بالإسلام بالباطل، وعانى نتيجة ثباته على أفكاره من ديكتاتورية «دانيال آراب موي» رئيس كينيا، وكذلك «عيدى أمين» فى أوغندا، لذلك عاش بعيدا عن أفريقيا، ورحل بأفكاره وثقافته التى كانت تسع الكل تاركا لنا أفكارا وأعمالا لا تموت.