مكافحة الإرهاب من المفاهيم الإشكالية فى عالمنا المعاصر. فهى لم تعد تتعلق بالمتورطين فى استخدام العنف أو المشتبه بهم، أو الذين يمكن تجنيدهم وجذبهم للايديولوجية الراديكالية، بل باتت متعلقة بنا جميعا. ففى مجتمع ديمقراطى مفتوح مثل بريطانيا باتت مكافحة الارهاب خطرا على الحرية والخصوصية الشخصية للمجتمع كله. فكاميرات المراقبة تملأ الأماكن العامة، ووسائل التجسس باتت منتشرة من المدرسة وحتى الجامعة، مرورا بالمساجد والمراكز الثقافية وصولا إلى الفضاء الالكتروني. وإلى جانب «الوصمة الجماعية» التى يشعر بها مسلمو أوروبا، ومسلمو بريطانيا من ضمنهم، بسبب الأتهامات الضمنية بأن المسلمين أكثر جاهزية للتطرف من غيرهم، فإن المسلمين يدفعون ثمنا اقتصاديا لتلك الشكوك والاتهامات الجماعية لهم. وهو ما يمهد الأرضية للتمييز ضدهم. واليوم تبلغ معدلات البطالة وسط مسلمى بريطانيا ضعف المعدل الوطني، ما يسهل تجنيدهم وجذبهم للأيديولوجيات الراديكالية على خلفية الشعور بالتمييز. كما يشعرون بالتضييق المتزايد على حرياتهم الشخصية. فإجراءات مكافحة الارهاب التى تمطرنا بها وسائل الاعلام على مدار الساعة ليست سوى قمة جبل الجليد من قائمة واسعة جدا من الإجراءات التى تتخذ يوميا باسم مكافحة الارهاب، والكثير منها لا يغطيه الاعلام وبعضه يشكل انتهاكا صريحا للحرية الشخصية والخصوصية الفردية. ففى السنوات الأخيرة توسعت الاجراءات التى تتخذها الدولة فى اطار مكافحة الأرهاب لتشمل التجسس الإنترنتي، والاعتقال الاستباقي، والاستجواب الوقائي، والقيود المالية، والمكافحة الالكترونية، وتحليل التوجهات والسلوك، والاختراق عبر عملاء محليين، وزيادة أعداد الشرطة وكاميرات المراقبة، وأمن المطارات، وأمن الحدود، والترحيل، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والحصار الأقتصادى وحتى تغيير النظم. أنها قائمة واسعة من الأجراءات تبدأ من التقنى إلى الأمنى وحتى السياسي. وهذه القائمة تقع فى اطار أربعة محاور أساسية لمكافحة الارهاب بحسب الاستراتيجية الدولية التى وضعتها الأممالمتحدة وهذه المحاور الأربعة هي: أولا اجراءات متعلقة بأسباب انتشار الأرهاب. وثانيا اجراءات مكافحة ومنع الارهاب. وثالثا اجراءات بناء قدرات الدولة على التصدى للارهاب، ورابعا اجراءات احترام حقوق الانسان وتطبيق القانون فى اطار الحرب على الارهاب. لكن التنوع غير المسبوق فى اجراءات مكافحة الأرهاب، جعل قطاعات واسعة من السكان تشعر بالاستهداف وبالتالى الإغتراب، خاصة بعد سلسلة من الاجراءات الجديدة جعلت مسلمى بريطانيا يشعرون بمخاطر متزايدة على حرياتهم الشخصية. ومن تلك الاجراءات مراقبة أنشطة طلبة المدارس والجامعات عبر الانترنت، ومطالبة المدرسين والأساتذة بملاحظة أى تغييرات فى الأفكار أو السلوك وذلك لوقف احتمالات تطرفهم وتجنيدهم، خاصة بعدما تسرب المئات من الشباب البريطانيين إلى سوريا للقتال إلى جانب التنظيمات الجهادية هناك. كما أن الاتجاه للاتهامات الجماعية للمسلمين عموما فى أوروبا، بوصفهم الحلقة الضعيفة الجاهزة للتطرف، أدى على تزايد البطالة وسط المسلمين خاصة النساء. واليوم فإن ثلثى من يعانون البطالة وسط مسلمى بريطانيا هن من النساء والفتيات ما جعل استقطاب الكثيرات منهن مهمة أكثر سهولة لتنظيم مثل «داعش». وتقول منظمة «النساء والمساواة» البريطانية إن أى استراتيجية حكومية لمواجهة التطرف والارهاب لن تؤتى ثمارها بدون تحسين الأوضاع الأقتصادية للمسلمين. وترفض المنظمة وغيرها من المنظمات البريطانية استراتيجية الحكومة بضم «الاندماج الوطني» للمسلمين، فى إطار استراتيجية مكافحة الارهاب، داعين إلى الفصل بين الاستراتيجيتين على أساس أن تحسين ادماج المسلمين وتحسين مستوياتهم الإقتصادية يجب أن يكون هدفا بحد ذاته، وليس مرتبطا بشكل عضوى بإستراتيجية مكافحة الارهاب. ووفقا لرئيسة المنظمة ماريا ميلر، فإن استراتيجية «منع التطرف» التى وضعها حزب العمال، عندما كان فى السلطة وواصلها رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون وتواصلها حاليا رئيسة الوزراء تريزا ماي، أدت إلى «توتر واحتقان» بالغين لدى مسلمى بريطانيا لم تخف حدته. إلى جانب هذا، هناك إزدواجية فى المعايير تجعل مكافحة الإرهاب فى الكثير من الحالات «مسيسة» لتحقيق أهداف معينة. والكثير من المنظمات الحقوقية والانسانية فى لندن ترى أن تلك الأزدواجية كارثية النتائج. فعلى مستوى صراع دولى مثل الحرب السورية، لا تجد لندن غضاضة فى التعامل على الأرض مع بعض التنظيمات السورية المتطرفة المرتبطة بتنظيم «القاعدة» مثل جبهة النصرة، مثل تنظيم «أحرار الشام»، وذلك وسط محاولات دولية لتصنيف هذا التنظيم «معتدلا» رغم أن أجندته الديمقراطية والحقوقية والسياسية لا تختلف عن «القاعدة». لكن ما يحرك لندن وغيرها من العواصم الدولية للتعامل مع تنظيمات جهادية متطرفة هو برجماتية سياسية خطيرة وقاتلة تسمح بإعطاء تلك التنظيمات مساعدات مالية وعسكرية والتمدد على الأرض وممارسة انتهاكات تعد جرائم حرب ضد السوريين. وعندما يبدأ خطر تلك التنظيمات الجهادية فى تهديد العواصمالغربية، كما حدث مؤخرا فى فرنسا وبلجيكا، يكون مواطنوها من المسلمين أول المتهمين بالسكوت والتواطؤ على النزعات الراديكالية وسطهم. وهذه الاتهامات بدورها تعزز الشعور بالاغتراب وتسهل على تنظيمات مثل «داعش» تجنيد المزيد من مسلمى أوروبا. إنها «حلقة مفرغة» من الفشل فى محاربة التطرف والإرهاب تشكل خطرا قاتلا على التعايش المشترك فى أوروبا وعلى الأمن الدولي.