أشرنا فى حديثنا السابق إلى جانب من قصة هاجر (عليها السلام) , ونتناول فى حديثنا هذا طرفًا آخر من حديث القرآن الكريم عن بعض النساء اللاتى وُلدن أو نشأن أو حيين على أرض مصر أو جئن إليها أو زرنها أو مررن بها, ومنهن امرأة فرعون التى امتدحها القرآن الكريم فى سورة التحريم, فقال سبحانه: “ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِنْدَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» , فاستجاب الله دعاءها , ولم يأخذها بجريرة فرعون أو جرائمه , ذلك أن العدل الإلهى اقتضى « أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى» , وأن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت , وأن الإنسان إذا ما صلح ما بينه وبين ربه لا يضره ضلال من ضل حتى لو كان أقرب الناس إليه أبا أو أخا أو ابنا , أو زوجا كما كان هنا فى شأن امرأة فرعون , وهى التى جندها الله (عز وجل) لتحول بين زوجها وحاشيته وبين قتل موسى (عليه السلام) حين ألقى اليم الصندوق الذى وضع فيه موسى (عليه السلام) إلى قصر فرعون , فأرادوا أن يقتلوه , فقالت : « قُرَّةُ عَيْنٍ لِى وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا». وارتباطا بهذا الحديث نقف على ما كان من امرأتين كريمتين عاشتا على أرض مصر هما أم موسى (عليه السلام) وأخته , فعندما أخبر أحد الكهنة فرعون أن طفلا يولد من بنى إسرائيل تكون نهاية ملكه على يديه شرع فرعون يقتل أبناءهم الذكور, وفى هذه الفترة العصيبة وضعت أم موسى (عليهما السلام) وليدها , وخشيت أن يأتى زبانية فرعون لقتله, وهنا جاءها الأمر الإلهى «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» . ولنا مع هذه الآية وقفات : أن الأصمعى سمع امرأة فصيحة بليغة , فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك , فقالت : وأى فصاحة وأى بلاغة إلى جانب فصاحة وبلاغة كتاب الله (عز وجل) , وقد جمع فى آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين, أما الأمران فهما : «أَرْضِعِيهِ» , و«أَلْقِيهِ», وأما النهيان فهما : «وَلَا تَخَافِي» , و«لَا تَحْزَنِي» , وأما الخبران والبشارتان معا فهما «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» . أن الإنسان إذا خاف على ولده وخاصة إذا كان الولد لا يزال طفلا لا يكاد بعقل ولا يعى اجتهد كل الاجتهاد فى إبعاده من اليم, لكن الحق سبحانه وتعالى يوجه أم موسى إذا خافت على ولدها بأن تلقيه فى اليم ,«إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان أن البشرى لم تكن بمجرد رده إليها فحسب, إنما تجاوزت ذلك إلى بشرى أخرى وهى جعله من المرسلين, فصنعت أم موسى الصندوق الخشبي, واستجابت فى إيمان كبير لأمر ربها, ووضعت فى الصندوق وليدها, وألقته فى اليم , وقلبها البشرى يكاد ينفطر, وهنا يأتى دور الأخت, «وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» أى تتبعى مسيره فى الماء, «فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ», فصارت ترقبه على الشاطئ, ولا يغنى حذر من قدر, فقد ألقاه اليم إلى حيث كانت أمه تحذر وتخاف, ألقاه إلى قصر فرعون , وتذكر بعض الروايات أن أخته هذه كانت تعمل بقصر فرعون أو لها به صلة ما, وقد أبى الطفل أن يرضع من أى امرأة فى القصر , فوقعوا فى حيرة العناية به, فقالت أخته : «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ» , وطمس الله على أفئدة فرعون وحاشيته, فلم يسألوا أخت موسى عن سر ثقتها فى أهل هذا البيت, وجاءت البشرى الأولى سريعة غير متوقعة لأم موسى «فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ» , ثم تحققت بعد ذلك البشرى الثانية بجعله من المرسلين. لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة