ترى البنيوية أن دراسة التفاحة وحدها لاتكفى لإعطاء صورة كاملة مالم نأخذ بعين الاعتبار الشجرة التى أنتجتها والمحيط المناخى والزراعى الذى عاشت فيه، ولذا فإن الإشارة إلى السياقات السياسية والثقافية التى صاحبت التجربة السبعينية فى الشعر المصرى تبدو دالة ومؤثرة، حيث تداعى الأحلام الكبري، جراء نكسة الصيف السابع والستين، والتحولات العاصفة التى انتابت المجتمع المصرى بعد قرارات الانفتاح الاقتصادى عام 1974، مرورا بانتفاضة الخبز 1977، ووصولا إلى معاهدة السلام عام 1979، فضلا عن جملة من التحولات الفكرية والثقافية المتمردة فى السياق العالمي، وبدأ الشعراء السبعينيون يستبدلون النص بالعالم، فيحققون المغامرة الجمالية والشكلية عبر استنفاد كافة إمكانات اللغة وطاقاتها الإيحائية والدلالية، ورفد النصوص بنوازع فلسفية وإنسانية، وهذا ما يتجلى فى نصوص عدد من رموز هذا الجيل الشعري، على نحو ما نرى عند حسن طلب، وحلمى سالم، ورفعت سلام، وجمال القصاص، وعبدالمنعم رمضان، وأحمد طه، وأمجد ريان، وأحمد زرزور، وصلاح اللقاني، وغيرهم. ينطلق حسن طلب فى تصوره للقصيدة من أن الشعر فن لغوي، ويصبح النص لديه لعبة جمالية بالأساس، على نحو ما نرى فى دواوينه: «آية جيم/ زمان الزبرجد/ أزل النار فى أبد النور»، نافذا صوب الروح الإنسانية فى مقاومتها كافة صيغ القمع والاستلاب، ومتكئا على التنويع فى الصيغ الأسلوبية، وشغل النص بمساحات جمالية ورؤيوية مختلفة، تستند على تصور فلسفى مركب، فضلا عن التماس المستمر مع الراهن المعيش على نحو ما نرى فى أعماله:» لا نيل إلا النيل، عاش النشيد، متتالية مصرية». وفى ديوانه الأخير: «باب الصبابات/ فصل الخطاب»، والصادر حديثا عن دار المعارف، يستكمل حسن طلب مغامرته اللغوية والجمالية بدءا من العنوان، فالصبابة هى حرارة الشوق ورقته، وهى على الرغم من فصاحتها غير أنها تستخدم كثيرا فى الحياة اليومية، فصارت ابنة للوجدان الشعبي، و«باب الصبابات» ديوان يتشكل من عشرين فصلا/ قسما فى الديوان، ويعتمد على منهجية شكلية وبنائية فى آن، فالباب جامع مجمل، والفصل تفصيل مفصل، ومن ثم تأتى الفصول/ الأقسام العشرون بقصائدها المختلفة تعبيرا جماليا بليغا عن مناحى الشوق، والغرام، واللقيا والوصال، والهجر والفقد، والاشتعال والخبو، والصحو والمنام، والبدايات والخواتيم. يتشكل فصل الإشراق من ثلاث قصائد: «استضاءة/ استضاءة حالكة/ استضاءة حالكة جدا»، توجد بينها روابط رؤيوية وجمالية، وكأن كل قصيدة تضيف بعدا جديدا للأخري، أو توسع أفق التأويل ومداه، وتبدو نهايات القصائد الثلاث حاملة مدلولها المركزي، حيث يتخذ الإشراق معنى صوفيا روحيا فى « استضاءة»، يبدو صنوا لفكرة التجلي، ثم تصبح الاستضاءة حالكة، ولم تعد حاصلة، غير أن ثمة إمكانية لضوء قادم تلوح فى نهاية القصيدة: «أستضيء بما لا يضيء/ ولكن أظل على ثقةٍ/ أن معجزة الضوء سوف تتم غدا/ سوف تحدث فى حينها». ثم يزداد الشوط اتساعا، ونصبح أمام استضاءة حالكة جدا، حيث يتساوى كل شيء، فيستحيل ثوب الزفاف الأبيض إلى كفن له اللون نفسه!. تبدو الفصول/ الأقسام حاملة منطقا جماليا خاصا، فمن الإشراق فى البداية، ووصولا إلى الختام فى النهاية، هناك منطق فكرى وفنى يهيمن على النصوص، وهذا ما نجده أيضا فى «فصل الحضور»، حيث ثمة علاقة بين القصائد الثلاث بعناوينها الدالة: «هوية»/ هوية جديدة/ هوية أجد». تتباين مستويات الأداء اللغوى فى «فصل الحضور»، حيث الوجود الكلاسيكى للغة فى قصيدة «هوية»، والتعبيرات المهجورة التى يحييها الشاعر، ثم تأخذ اللغة بعدا رمزيا موازيا للمقدس فى «هوية جديدة»، ثم تأخذ طابعا مجازيا محضا فى « هوية أجد»، وكأنها تعبير جمالى عن تنويعات اللغة الشعرية لدى حسن طلب من جهة، وانتقالاته النوعية من جهة ثانية. تأخذ العناوين الفرعية فى «فصل الفصول» بعدا دلاليا وإشاريا واضحا، حيث تأتى قصيدة «ديمومة» بوصفها من وحى الربيع، وقصيدة «برهة» من وحى الصيف، و»مسافة» من وحى الخريف، و» ذكري» من وحى الشتاء، وكل منها مهداة إلى امرأة يحددها الشاعر، وتبدو العواطف مشبوبة فى قصيدتى «مسافة» و»ذكري»، وتبدو القصيدتان معبرتين عن أنسنة للحسى الساكن خلف ظلال المجاز والمعانى الثواني. يلوح نفس رومانتيكى شفيف فى فصلى «الهوي» و»الغرام»، ويصبح التنويع الأسلوبى سمة من أهم سمات الديوان، وأداة من أدوات التعبير الجمالى عن موضوعته المركزية «العشق»، وإن ظلت الصيغ الإنشائية مهيمنة على النص، ومشكلة ما يعرف بالمستوى المسيطر داخل الديوان، وهذا ما يتجلى فى قصيدة «صبابة أخري»، التى تبدأ باستفهام تعجبي: «ما هذا الطيف المنطفيء البراق؟!»، ثم يتواتر هذا الاستفهام التعجبى «ما هذا الشجن العذب.. الصعب؟!» وصولا إلى توظيف الفعل الشعرى المنتج، متبوعا بصيغة خبرية تفيد الإقرار والتسليم لأمر الحب فى نهاية القصيدة: «فمال الشاعر بين الشطين.. وقال: لمحبوبى لؤلؤة الشوق.. ولى ألق المشتاق». يبدو «فصل المكابدة» من الفصول المركزية فى الديوان، حيث يتدفق ماء الشعر على نحو آسر، وعلى الرغم من اشتباكه مع الواقع المعيش، غير أنه يظل محتفظا بخصوصية القول الشعري، وفى النصوص الثلاث» نقمة/ حكمة/ نعمة» ثمة امرأة تحكى مأساة حبها للشاعر الذى لن تطعمها كلماته، ولن تكسو عريها، غير أنها فى النهاية يغلبها الحب وتتمنى عودة ما كان. يبدو حسن طلب مشغولا بالإرث الشعرى العربي، فيأتى فصل «النسيب» حاويا أصل المعلقة وظلها وذيلها فى كتابة عمودية شكلا وإيقاعا، وفى «فصل الطوالع» تحكى المرأة عن نفسها فى قصائد:»برج العقرب/ برج الميزان/ برج القوس/ برج البروج»، وتحضر بوصفها ذاتا شعرية متخيلة، وهى ذات مركزية تتواتر فى الديوان، وتأتى القصيدة الأخيرة فى الديوان «نهاية» حاملة حسا صوفيا بليغا: «إنّ ما لا ينتهي/ فيّ انتهي!/ خير ما أفعله:/ أن أتركَ/ الروحَ/ لتحيا/ موتَها». وبعد. يبدو ديوان «باب الصبابات» تكريسا لمشروع شعرى فريد فى متن الشعرية المصرية والعربية، صنعه الشاعر حسن طلب باقتدار وعلى مهل، وبروح لم تمنعها صرامتها من أن تمارس لعبا لغويا وجماليا ظل يصحبها منذ المفتتح وحتى الختام. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله