ضمن الأصوات الشعرية الشابة والمائزة التي تضع أيديها بأناة وتصاعد على مفردات صوتها الخاص، يأتي الشاعر السيد كامل، الذي فتح قوسه وأطلق أول سهامه عبر ديوانه المعنون ب “,”كلام مدهون“,”، والصادر عن سلسلة النشر الإقليمي لفرع ثقافة الفيوم، وهو تجربة مخلصة لقناعات وانحيازات منتجها، ومتلقيها المفترضين الذين يقعون ضمن دائرة الانحيازات الباعثة على إنتاج النص، فكان النص أقرب إلى الوعي الإبداعي الجمعي للجماعة الشعبية، والملتزم، بالمقياسين: الشعبوي والسارتري. وهي تجربة ربما يظلمها الطرح على مائدة المنهجية التحليلية والتأويلية، بناءً ومحتوى، لما يبدر للذهن تجاهها من القراءة الأولى كمعادل معصرن لبلاغة وحضور الفلكلور الشعبي في دائرة التلقي الآني، خصوصاً على خلفية ما أحرزته قصيدة العامية المصرية بشكلانياتها العديدة، وانحيازاتها الفلسفية والجمالية، وقد أتى عنوان الديوان “,”كلام مدهون“,” بداية ً مخاتلةً عبر علاقة لغوية مجازية تجمع الصوتي بالمرئي، وتتدثَّر بغلالة شفيفة من بلاغة الحذف التي تفتح قوس الاحتمالات الدلالية، بما يصحبها من انتصار لعملية التلقِّي المنتج للنص في متواليات قرائية ديناميكية، زمانيا ً ومكانيا، وهو ما يقرِّبنا لما أحرزه الشعر – ومنه قصيدة العامية في الحركة الأدبية الآنية، ولكن الشاعر لم يصبر على هذا الملمح كي يوطِّد أواصر علاقته بالنص وبالمتلقي طويلا، حيث يبدأ الديوان ومن عتباته الأولى، منذ الإهداء، بدايةً منحازة لتراث بلاغي وجمالي، رؤيويا وتعبيريا كما أسلفتُ. يقيم النص علاقته بالمجاز والتخييل على قاعدة تقليدية تماما، تنتصر فيها آليات التشبيه البسيطة، وبلاغة التضايف المتراكبة، والتي كثيرا ما تقف داخل الديوان أُمّاً وأباً للصورة، مكتفيتا بالجمع بين المفردات مختلفة السياق في جملة المضاف والمضاف إليه: “,”لدغة جحور الرفض، شعرة يأس حلمك، همس شفايف البسمة، ورود المسألة.. وغيرها“,”. كما يتبدَّى ملمح الانحياز لدور الراوية، والحامل للقيم الجمالية للجماعة الشعبية، عبر انتصار المجاز – في أغلبه إن لم يكن في مجموعه – للعب دور الناظم للقيم اللغوية والتعبيرية شبه الراسخة، والأقرب إلى شكل المسكوكات البلاغية، بشكل يجعله لا يعدو كونه آلة لتدوير خامات وعناصر ومستهلكات القيم الجمالية في بناءٍ لغوي جديد، يحصر دور الشاعر في إطار أقرب لرواة السير الشعبية الذين تلتزم قرائحهم بمحددات واضحة دلاليا وجماليا، وتنحصر إضافاتهم الإبداعية أو التكميلية في التعاطي مع اللغة ببعدها الإشاري المحض، بما يتوافق وإشارة سبق تلقيها – إرسالها، تُغلِّب القيم الجمالية للسان الإبداع الشعبي على نصوص الديوان، عبر الدائرتين: اللغوية، والموسيقية أيضاً. فعلى مستوى اللغة، ينتصر الديوان لمعجم يحمل كثافة التواجد والفاعلية في تلال المنجز الشعبوي، إلى حد استخدام منحوتات وصياغات لغوية غير متداولة آنيا، حتى في إطار الجماعة الشعبية، إضافةً إلى غرام الشاعر بجماليات التجاور والتحاور اللغوي، كطبعة صادرة من ماكينة الحِكَم والأمثال الشعبية، عبر أنماط التقابل والترادف والتجنيس والتقفيات الداخلية: “,”بتجيني رافضة موافقتك ومحبتك، ليه شاغله بالك وف خيالك، دا انا لو رسمتك من وسامتك، ما جاش ليكي لكن جاني وجاني الحب لو يعرف، أكيد عارفه بإنك للجسد روحي خلاص روحي وروحي هدوسها لو كانت هتجزعني، قصور خلافات لوحديها وماشيها واجاريها واعيش بيها“,”. وعلى مستوى العروض الخليلي، جاء الديوان في خمس رباعيات جميعهن على إيقاع بحر البسيط، وموزعات بين النصوص التسعة عشر، التي أتت كلها باستثناء النص الإبجرامي الأخير الذي أتى على إيقاع الرمل – أتت نصوص الديوان على إيقاعي الكامل والوافر، وهما ابنا دائرة عروضية واحدة، إضافة إلى أنهما بقيمهما الجمالية والتعبيرية ينتصران للغنائية بمعناها الاحتفالي وأحدهما مقلوب للآخر، وهو ما يجعلنا بشكل ما، بالتغاضي عن فاصلة صغرى، أو عن وتد مجموع، في إهاب إيقاع واحد لو قرأنا الديوان كنص واحد مدوَّر، إضافة إلى أن الرباعيات التي أتت على البسيط تستلم الراية بسلاسة وقليل عناء من تفعيلة الكامل لتفعيلة البسيط الأولى “,”مستفعلن“,”، والتي تساوي تفعيلة الكامل إن دخلها الإضمار، كما تُسَلِّمُ الراية لتفعيلة الوافر من خلال الوتد المجموع من تفعيلة البسيط الرابعة “,”فعلن“,”، واللتين تساويان باجتماعهما تفعيلة الوافر، وهو ما يقرب الديوان لأن يكون نصا واحدا سِيَرِيَّا متعدِّدَ الأوجه الدرامية، والشخوص، والحالات “,”الزمكانية“,”، ليكون المتلقي ضيفا على حلقة سمر شعبية، يتوسطها الشاعر كراوية شعبي مخلص. ويبدو أن الموسيقى قد شكلت عائقا ما للشاعر، رغم هذه الآلية بسيطة التواتر وسلسة التراسل، فظهرت بالديوان عدة هنات عروضية منها: “,”وشوفي انتي أد إيه هنعاني لوحدينا، من يوم ما دخلت م العتب“,”، إضافة إلى عديد السطور الشعرية التي يتعارض فيها المسار اللغوي مع المسار العروضي، ودائما ما كان الشاعر يختار إقامة عماد العروض على حساب المنطق اللغوي، وسلامة الجمل والضمائر، حينما يخاطب الأنثى بالمذكر، أو يجعل الفعل اللزم متعدِّياً، أو يستطرد لغويا بالتقديم والتأخير غير المنطقي: “,”ما كنش لزومه دلوقتي كلامي معاك، حلمي أصغر من خطاك، خليني من جواك حبيب، وبلاش نكون ع الرف ليه راكنانا، ذاتك تملي معظماه، وما فيش هدف ليك حطيتيه وبتوصلي، عشان ما خطرش يوم بالي“,”. وأنتج التعامل مع اللغة مشكلة قريبة الشبه من هاته السالفة الذكر، حين سعى الشاعر إلى إحداث انحراف دلالي، وتفجير لخَطِّيَّة اللغة، فأتت بعض الجمل الشعرية تخاصم الوجدان العام الذي تتحرك فيه القصيدة الحاملة لها، بل ويتحرك فيها الديوان ذاته، كما اعتورت النصوص سقطات تتعلق بمستويات السرد وتناميه ودراميته، وسياقاته الوقائعية التي لا تحتمل نشازا معجميا: “,”البعد زاد البلَّة طين، ما قصدش أجرَّح في الأفيش، غلاف أبيض من الصيني وعنوانه حلاوة مع استفهام، بتنهي الحب ف الآخر عشان بداياته مشطوبه“,”، وهي من قصيدة “,”الحب جوايّا“,” التي جاءت بدايتها: بشوف الحب جوايّا كتاب مفتوح، وقد غلبت على قصائد الديوان تقريرية رائية وبصيرة، إضافة إلى أنها تدعم التصور القائل بموضعة التجربة كشكل تطويري لمنجز وقيم ما تريده وترتضيه الجماعة الشعبية، إلا أنه أيضا، ومع سيطرة ضمائر المتكلم والمخاطب والمخاطبة على الذوات المسرود عليها، أصبحنا أمام سارد عليم، يقذف بسهام المحاولات التأويلية والدلالية إلى مركز دائرة المنولوج الداخلي إلى حد بعيد، وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة بين الشاعر والنص والمتلقي، متسائلة عن موضوعية اعتمال هذه الكثافة اللغوية والموسيقية والمجازية في دواخل وبين ضلوع روح إنسانية تقيم العالم، وتموضع نفسها منه على أرضية وجودية، يفترض فيها الانتماء إلى الهم ال “,”ما بعد حداثي“,” بإشكالاته وجمالياته، لا الوقوف على هذه الصلابة اليقينية التي تليق بشاعر نبي لم تكن – قديما – تُحْتَبَس غنائيتُه بين أضلاعه، وإنما كان يصرف ذاته عن العالم – وإن بدا ظاهريا ما يناقض هذا – أو يصرف العالم على ذاته التي أتت بعلم أو دون علم كمركز وحيد للعالم، وغير مفتوح على أطراف. آلية أخرى ظهرت جليَّةً في غير نصٍّ من نصوص الديوان، وهي التمترس خلف جملة لغوية، غالبا ما تكون حيادية، واتخاذها كتيمة مفتاحية لتوليد مقاطع النص، وهذه الآلية تتشاكل مع الشكل الشعبي في الغناء والرواية الشعبية، ليماثل هذا المقطع، المذهب أو المَرَدّ، الذي تصدح به الجوقة لينتقل الراوي إلى سياق آخر، وليخفف من عناء الاتصال الدرامي والأدائي، ولكن هذه الآلية – على المستوى الشعري المحض – تعطي إحساسا قويا بالاصطناع، وعدم إمساك الشاعر بحالة النص، وتفلتّها من بين يديه، بل ربما يتطور ليعني أحيانا أننا أمام نص يُكتب من لا شيء، وهي آلية تحفل باللايقينة، وبغياب السرديات الكبرى التي تستأهل حضوراً كاملاً منفردا، وبالتشظِّي وتفتت الذوات والجماليات، وهي قيم بنائية وفكرية ما بعد حداثية، وتتعارض في جانب كبير منها مع ما انتهجه الديوان من بدايته في انحيازاته، واستخدامه لطاقاته وإمكاناته اللغوية والموسيقية العديدة. ملمح آخير في الديوان، أردت ادِّخاره لآخر حديثي، لأنه تقريبا الملمح الوحيد الذي آخذ منه موقفا صريحا منذ البداية على غير ما تقتضي قواعد المنهج والتعاطي النقدي السليم – فقد ظهر بقوة وفي غير نص “,”حوالي خمسة نصوص تحديدا“,”، تأثر الشاعر بآليات ومنجزات وأدوات وجماليات الشعر النبطي – في بلاد الشام والخليج العربي وقد ظهر التأثّر عبر كل عناصر صياغة النص الشعري، فعلى مستوى اللغة عمد الشاعر إلى استخدام ألفاظ غريبة على العامية المصرية، سواء بنحت غير مطروق، أو باستحضار أصل المفردة الفصيحة “,”شردانة، يأسانة، قانعانة“,”، إضافة إلى اعتماد الشكل العمودي المبني على قافيتين مختلفتين، للصدر والعَجُز، إضافة لاستخدام عروض مغاير لما درج عليه استخدام العروض الخليلي في القصائد الفصيحة أو العامية، فقد جاءت النصوص الخمسة على تفعيلتي الكامل والوافر، ولكن بتواتر أربع تفعيلات بكل شطر، وهو انحياز جمالي وبنائي لا مبرر له، خاصةً وأنَّ السير في هذا المضمار لم ينتج تجربةً مائزة بعرضها على المقارنة بالمثيل المحلي أو المُبْتَغَى النبطي. ولكن الديوان في مجمله، وكتجربة إبداعية أولى لصاحبه، يمثل صوتاً إبداعيا جيداً، يبدأ في تشكيل مشروعه عبر الاتصال بمنجزه وخلفيته الإنسانية والاجتماعية والجمالية، في تواصل حيّ وخلاق مع المنجز الذي حققته القصيدة العامية المصرية، ولا ينقصه سوى السعي إلى التجريب، والرغبة في التجديد والتجاوز، كي يصبح صوتاً خاصاً وخالصاً لنفسه.