لو زرت كل شبر فى أرض مكة لوجدت رحمة الله فى كل مكان، وما ذلك إلا لننشر الرحمة مع كل خلقه، لذا فقد حرّم الله ترويع الآمنين ولو كان عصفورًا صغيرًا، وحذرنا من تعذيب الحيوان، وأنه من الممكن أن يعذب إنسان لأنه آذى قطة، فبعث لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرينا كيف تكتمل الإنسانية بالرحمة فى كل شيء حتى الشجر. إن الحج هو غرة السعادة، وعنوان الرضا، وفاتحة الخير، وشعيرة من شعائر الله، وفريضة من فرائضه، فيه تتجمع القلوب وتتآلف، وفيه مواقف تتنزل فيها الرحمات، من فوق سبع سماوات، فما دعاك الله إلا ليحبك، وما ناداك إلى الحج إلا ليمنحك، قال تعالى «والله يعدكم مغفرة منه وفضلا» وهناك مشاهد فيها تجليات إيمانية ، وعبر وعظات ربانية منها : المشهد الأول: حين ترى الحجاج قد تجردوا من الدنيا وزينتها وتركوا أوطانهم وديارهم، اجتمعوا فى مكان وزمان واحد، يرتدون زيًا واحدًا ، وجهتهم واحدة ، يدعون إلها واحداً، غايتهم واحدة، ، وهنا ملمحان مهمان: أولهما يذكرنا بخروجنا من الدنيا تاركين خلفنا الأولاد والزوجة والأرض والمال، والعمل، ثانيهما: ما يشعر به المسلمون من الوحدة والاجتماع، فإذا ما توحدت صفوفهم وتآلفت قلوبهم واجتمعت كلمتهم لم يستطع عدوهم أن ينال منهم أو ينتقصهم حقهم . المشهد الثاني، الصفا والمروة: وإذا ذهب الحجاج إلى الصفا والمروة فإنهم يتذكرون قول الله تعالى فيهما: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ». ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين اقترب من الصفا (أبدأ بما بدأ الله به)، فإذا صعدوا تذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليهما. إن هاجر أم إسماعيل، نفّذت أمر الله، فذهبت إلى مكان قفر، لا حياة، لا بشر، لا زرع ، لا ماء، لكن ثقتها فى الله لم تتزعزع، لأنها قالت: « لن يضيعنا الله « ، وهنا درس نتعلمه هو أن السعى علينا، والرزق على الله، فلما سعت بابنها نزلت الرحمة من الله عليها وعلى ابنها، ويفجر الله بئرًا من الماء يكفيها ولكل البشر من بعدها، فأصبح المكان عمارًا من بعد قفر، وحياة من بعد موات، وهنا نتعلم، أن ضربة إسماعيل فى الأرض لا يمكن أن تفجر بئرًا من الماء، وأن هاجر لم تخطط يوماً لحفر بئر، ولكنها سعت والله تكفل ورزق، لذا كان سعينا بين الصفا والمروة. المشهد الثالث، الوقوف بعرفة ولماذا الحج عرفة: ليوم عرفة أهمية كبرى ، فمن لم يقف بعرفة فإنه لم يحج، يقول أهل العلم من فاته الوقوف بعرفة فاته الحج ، وأقسم الله بهذا اليوم فقال تعالى فى سورة البروج «وشاهد ومشهود»، فقال النبى مبينا أن المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة، وهو حقًا مشهود، يوم تقال فيه العثرات، وتجاب فيه الدعوات، ويباهى الله بأهل عرفات. فإذا وصلت وفود الحجيج إلى عرفات الله، ترى هناك الباكين ، والخاشعين ، والمتذللين، هناك تسكب العبرات، وتتنزل الرحمات، وتغفر الزلات، ولم لا؟ وهو أعظم يوم فى السنة، هو أقسى وأخزى يوم على الشيطان، نتذكر نبينا صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فى الحجيج ويضع أسسًا عظيمة، فقد بيّن حقوق الإنسان ما له وما عليه، والمساواة، والوصية بالنساء، وحرم الربا، وعلى جبل عرفات يتجلى الله سبحانه وتعالى ليباهى بعباده ملائكته فيقول: «هؤلاء عبادى أتونى شعثاً غبراً أشهدكم أنى قد غفرت لهم». المشهد الرابع: إن فى قصة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) لعبرة، رجل يعرف أن ابنه سيفارقه فى اللحظة، بأمر من الله، ظاهر المشهد قسوة، لأن إسماعيل لن يموت فى حادثة عارضة، ولكن أُمِر أبوه أن يذبحه بيده، فجاهد إبراهيم نفسه، وتنزلت رحمة، لأن الله لا يريدنا أن نتألم أو نحزن، لأنه يحبنا ويريد منا أن نحبه، وأن نطيعه، ونزل الكبش من السماء فداء، وصار الأمر سنة إلى يوم القيامة وما زلنا نقرأ قصته فى القرآن الكريم، وتأتى الذكرى علينا كل عام وتذكرنا بأن الله رحيم بنا لأبعد درجة، قال رسول الله: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا, وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ»، فهنيئًا للمعتمرين وحجاج بيت الله الحرام، وطوبى لمن عاد وقد غفر الله له، فينبغى لكل حاج أن يحافظ على حجه. أما من لم يكتب له الحج لعذر أو مانع فعليه أن يحج بقلبه وروحه، ويلتزم ببعض الأعمال الصالحة، فإن الله يثيبه ويجزيه ثواب الحج وهو كما قال نبينا :»إن بالمدينة أقواما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا: كيف يا رسول الله ؟ قال حبسهم العذر». لمزيد من مقالات د. أشرف فهمى