تلقيت خطابا بالغ الرقي والدلالة من السيد المستشار رئيس مجلس الدولة, وكان الخطاب مؤرخا باليوم نفسه الذي نشرت فيه جريدة الأهرام مقالي ثقافتنا معادية للمرأة الذي تعرضت فيه لموقف أعضاء الجمعية العمومية في تعيين المرأة قاضية في المجلس. والحق أنني كنت توقفت عن الكتابة في الموضوع بعد البيان الرسمي الذي صدر بإجماع الأصوات في المجلس الخاص لمجلس الدولة, احتراما للمجلس الذي لم أتحدث عنه إلا بكل التقدير والإعزاز, فأنا من المثقفين الذين يجلون السلطة القضائية بكل أنواعها, ويرون فيها حصن أمان للدولة المدنية القائمة علي الفصل بين السلطات, واحترام الدستور والقانون. ومن منطلق تقديري لمجلس الدولة والمجلس الخاص, لا أتردد في دعوة أقراني من المثقفين والمثقفات, إلي التوقف عن الكتابة في الموضوع, حتي لا يكون لكتاباتنا أي تأثير علي اللجنة التي تدرس الموضوع بالحياد المرجو والمطلوب, وأن نمنح اللجنة الفرصة في الدرس الهاديء المتأني المراعي لكل الجوانب, والمؤكد, دائما, قيم المواطنة ونصوص الدستور. وأستأذن السيد المستشار رئيس مجلس الدولة الذي أكن له, شخصيا, ووظيفيا, كل التقدير والاحترام, خصوصا أن ما سمعته عنه من رجال القضاء الذين أعرفهم يدعوني إلي كل الثقة فيه وفي أقرانه, في نشر خطابه الذي يتصل بأمر عام: السيد الأستاذ الدكتور/ جابر عصفور رئيس المجلس القومي للترجمة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, تحية إجلال وتقدير لرمز من رموز التنوير الفكري والثقافي في مصر, وبعد, فلا شك أن الوسطية الفكرية تحتاج إلي رجال يشهد لهم التاريخ بالتطوير والبناء, وهو أمر صعب المنال, والأصعب هو الحفاظ علي هذه الوسطية دون الإغراق في التحرر الذي يوجد بدوره فكرا مضادا من الجمود والتحجر كرد فعل لذلك, ولا شك أن سيادتكم مثل وقدوة للتنوير الفكري الوسطي بين هذا الاتجاه وذاك. وبالنسبة إلي موضوع تعيين المرأة في الوظائف الفنية( القضائية) بمجلس الدولة والذي كان موضوعا لعدد من مقالاتكم أخرها المنشور بجريدة الأهرام بتاريخ2010/3/29 تحت عنوان( ثقافة معادية للمرأة), فإن هذا الموضوع كما تعلمون كان محلا لنقاش طويل مطروح علي الساحة وتناولته الألسن والأقلام, مما أدي إلي لغط كبير طال مجلس الدولة وأحكامه الشامخة وقضاته الأجلاء, ومن أجل ذلك أصدر المجلس الخاص لمجلس الدولة بيانا رسميا بالإجماع بتاريخ2010/3/22 أكد فيه علي النقاط التالية: 1 صلاحية المرأة لتولي الوظائف الفنية بمجلس الدولة, وأنه لا يوجد ثمة موانع شرعية أو دستورية أو قانونية تحول دون ذلك, وإنما توجد موانع عملية في الوقت الحالي. 2 تشكيل لجنة لدراسة الموضوع دراسة متأنية وإبداء المقترحات المناسبة, علي أن تنتهي اللجنة من عملها في غضون ثلاثة أشهر. 3 أهاب المجلس بالجميع من داخل المجلس وخارجه وقف التصريحات الخاصة بهذا الموضوع حتي تتمكن اللجنة المشار إليها من إعداد الدراسة المطلوبة ووضع المقترحات المناسبة في هذا الشأن. 4 اتخاذ الاجراءات التأديبية ضد أي عضو من أعضاء مجلس الدولة يتناول هذا الموضوع مرة أخري من قريب أو بعيد في وسائل الإعلام قاطبة, كما تتخذ الاجراءات الجنائية لكل من يتطاول علي مجلس الدولة أو يتجاوز في حق أحكامه أو قراراته أو أعضائه, باعتبار ذلك شأنا خاصا بالمجلس الخاص بمجلس الدولة. وهديا بما تقدم, نهيب بكم, من واقع مسئوليتكم كرئيس للمجلس القومي للترجمة ورمز للمفكر المصري المستنير, ترك هذا الأمر للمجلس الخاص بمجلس الدولة لمعالجته بالطريقة الملائمة دون تجاوز أحد للحدود تطبيقا للبند الرابع المشار إليه, وبعد ذلك يكون من حق الجميع أن يعلق أو يبدي رأيه في ذلك الموضوع باعتبار أن الحرية هي ممارسة الحقوق والوقوف عند الحدود دون تجاوز أو مساس بهيبة مستشاري وقضاة مجلس الدولة أو مؤسساته المختلفة. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام رئيس مجلس الدولة المستشار/ محمد أحمد الحسيني 2010/3/29 والحق أنني, بعد أن قرأت الخطاب قراءة متمعنة, لاحظت ما يلي: أولا: أن الخطاب نموذج للغة راقية, تبين عن احترام رئيس مجلس الدولة الموقر للمثقفين ودورهم الايجابي, سعيا لتحقيق المصالح العليا لتقدم المجتمع, بعيدا عن أي شكل من أشكال التمييز بين المواطنين من ناحية, واستقلال السلطة القضائية تماما, بعيدا عن أي تدخل سلطوي من السلطة التنفيذية أو الحكومة من ناحية موازية, فالأصل في القضاء هو صيانة الدستور والقانون وتطبيق أحكامهما علي الجميع بلا فارق أو تحيز, وبتجرد كامل قدر الامكان, فالقضاة بشر في نهاية الأمر, يتأثرون بما يتأثر به المجتمع, ولا عاصم لهم ولنا من الهوي سوي مراعاة جوهر الدين السمح من ناحية, والضمائر الحية العادلة من ناحية مقابلة. وإذا كان الدستور والقانون هو ضمان اعتدال ميزان العدل أولا, فإن هذا الاعتدال لا يكتمل إلا بإعمال روح الدستور والقانون علي أساس من المصالح المرسلة ثانيا, وذلك دون التوقف عند ظاهر النصوص, أو فهمها فهما شكليا, ينحرف بها عن إجادة الحق والخير والتقدم لكل أبناء الوطن. ثانيا: لا أعتقد أن هناك صاحب قلم عاقلا يمكن أن ينال من مجلس الدولة وأحكامه الشامخة وقضاته الأجلاء, حتي لو كان البعض القليل منهم قد بالغ في إبداء, رأي رآه, فالاستثناء لا ينفي القاعدة, والنوايا الطيبة مفترضة سلفا, ومتوقعة دائما من الجميع. ومن يجهل تاريخ القضاء وأحكامه الشامخة وقضاته الأجلاء يجهل صفحات مضيئة في تاريخ بلده الذي يفخر به, ويضع مصالحه العليا فوق أي اعتبار. ثالثا: لا أتصور أنني أخرج علي إجماع المثقفين الذين أشرف بالانتساب إليهم, حين أعلن عن موافقتي وإياهم علي أن الوسطية الفكرية هي المنهج القويم للعقل, وفهم كل شيء بما يؤدي إلي تطوير المجتمع وتقدمه. وهو أمر حتمي لمواجهة التطرف علي كل مستوي, ما ظل التطرف يؤدي, في كل أحواله, إلي نقيضه, تحقيقا للقاعدة التي تري أن لكل فعل رد فعل, مساو له في القوة ومخالف له في الاتجاه. ويؤكد تاريخ الأمم هذه القاعدة التي هي قرينة تجلياتها السياسية والاجتماعية والثقافية والقضائية في آن. والمؤكد أن كوارث التطرف الديني هي التي خلقت نقيضها, وذلك بالقدر الذي سببته كوارث التطرف في إنكار الأديان. وبالقدر نفسه, فإن تطرف السلطة السياسية, في استبدادها, هو الذي يؤدي, طال الزمن أو قصر, إلي التمرد المتطرف عليها وضدها. رابعا وأخيرا: لابد من تقدير ما ورد في قرار المجلس الخاص من أنه لا توجد موانع شرعية أو دستورية أو قانونية تحول دون تعيين المرأة في الوظائف الفنية بمجلس الدولة. أما المواقع العملية في الوقت الحالي فهي زائلة مع الادارة الحكيمة والممارسة العملية, ولنا أسوة في الأقطار التي سبقتنا. ولا شك أن نص المجلس الخاص علي ذلك في بيانه, قطع الطريق أمام التطرف الديني الذي يناقض الطبيعة السمحة للإسلام, ويعادي التقدم بوجه عام والمرأة بوجه خاص, مدعوما بالتخلف الاجتماعي والتسلط السياسي. وأعتقد أن إقرار هذا المبدأ في ذاته, يفتح أبواب الأمل أمام المرأة والمدافعين عن حقوقها الدستورية. وهو أمر يجعلني أتوجه بالتحية والتقدير إلي السيد المستشار رئيس مجلس الدولة شخصيا واعتباريا علي السواء, وتحيتي موصولة باحترامي العميق لكل من يوافقه علي ذلك من أعضاء الجمعية العمومية, ولا أبالغ لو قلت إنني أتحدث باسم القراء في هذه التحية, فهم ينتظرون الحق والعدل من مجلس دولتهم الذي هو عنوان تقدمها واحترام دستورها والدفاع عنه. المزيد من مقالات جابر عصفور