من قلب الظلام الدامس وبأحضان السكون الطويل، داعبت خيوط الشعر والأدب أهداب لم تيأس ولم تعرف المستحيل. فالفجر من رحم الظلام يولد. وفى العتمة كذلك ولد كبار الأدباء والشعراء. كيف لنا أن ننسى هوميروس شاعر الإغريق الكفيف وصاحب ملحمتي «الإلياذة والأوديسة» الخالدتين؟.. وفى الظلام أيضا ولد أبي العلاء المعري، رهين المحبسين والجامع بين الفلسفة والأدب.. وبشَّار بن برد، والأعشى، وعبد الله البردونى، والقيروانى، والإمام شمس الدين الذهبى، وعميد الأدب العربى طه حسين، والشاعر الإنجليزى جون ميلتون صاحب القصيدة الشهيرة «الفردوس المفقود». جميعهم حرموا نعمة البصر لكنهم حظوا بنعمة البصيرة التى اضائت للإنسانية حياة الفكر والأدب. عظماء أشعلوا مصابيح العقل وشموع القلب، حين جن الظلام بستره المهيب وسيطر على الأمة، فكانوا طوق نجاة لها. على مر التاريخ، كانت مصر منارة العالم فى جميع الميادين. لم يقتصر دورها فقط على إنارة العقول. وإنما كذلك إنارة الطرقات المعتمة والبيوت قبل اختراع الكهرباء. فقد عرفت مصر مصباح الزيت قبل نحو ستة آلاف عام. منحوتاً في حجر، كان الفراعنة يشعلونه بزيت الزيتون أو زيت الخَروَع أو شحم الحيوان، ويصنع الفتيل من الكتّان. لا شك أن الإنارة ليلاً تعد من أسباب تفوق الحضارة الفرعونية، لأنها كانت تتيح مواصلة العمل ليلاً فى المشاريع الكبرى. فى القسم الثاني من: التواريخ، يصف هيرودوتس ليلة منيرة فى مصر القديمة لأحد الإحتفالات الفرعونية، قائلاً: «الآن كل المصابيح مضاءة، مليئة زيتاً مملّحاً، فيما يطفو الفتيل فوق الزيت، مشتعلاً كل الليل، فى هذا المهرجان المسمّى: لِخنوكايا (أي مهرجان إنارة المصابيح). واحدة من عجائب الدنيا السبع كانت فنارة الإسكندرية، التى شيدها بطليموس فيلادليفيوس حوالى 280 ق.م فى شبه جزيرة فاروس بالقرب من الإسكندرية، وعرفت ب «منارة فاروس». كان الغرض من بنائها هو هداية البحارة عند سواحل مصر المنخفضة. شيدت من الرخام الابيض وقد بناها المهندس ((سوستراتوس)). يذكر أن ارتفاعها بلغ نحو 180 مترا، بحيث يُرى نورها على بعد خمسين كيلو متراً لإرشاد السفن القادمة إلى الإسكندرية. وفى صدر الإسلام، ظهرت «المشكاة» لإنارة المساجد. وبات أفضل المشكاوات التى نعرفها اليوم، هى تلك التى صنعت فى مصر وسوريا فى عصر دولة المماليك. وهى تمثل أرقى أشكال صناعة المصابيح على المستوى الجمالى فى كل الثقافات والحضارات لما تبرزه من روعة الفنون الإسلامية. تتألف المشكاة عادة من ثلاثة أقسام: الرقبة، والبدن، والقاعدة. تضاف إليها من الخارج حلقات معدنية لتعليقها بواسطة سلاسل أو حبال بالسقف. وأحياناً كانت تزخرف بأشكال مستوحاة من النبات والزهر، لكن الغالب هو زخرفتها بآيات قرآنية. مساءات مضيئة فى رمضان عام 358ه عندما دخل المعز لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة ليلاً، استقبله أهلها بالمشاعل والفوانيس التى تحولت فيما بعد إلى رمز رمضانى. وبقيت هذه الفوانيس مضاءة طوال ليالى الشهر الكريم. ثم تحول الأمر إلى عادة سنوية بهدف تنشيط التجارة فى الأسواق. فصارت الفوانيس تضيء الشوارع من الغروب إلى الفجر، حتى ظهور الكهرباء والمصابيح الكهربائية. يذكر أن هناك أسماء عديدة للفانوس، منها: أبو شرف - أبو عرق - أبو لموز - أبو حشوة - المسدس - الصاروخ - الدبابة - شقة البطيخ - علامة النصر - أبو لجم – الترام.. أما أشهر الأسماء كلها فهو «أبو ولاد» وهو أكبر الفوانيس التي تصنع على هيئة شكل رباعي ويطلق عليه هذا الاسم لوجود أربع فوانيس صغيره تعتمد على زواياه الأربع، وكل واحد منها يمثل أحد أولاد الفانوس الكبير. الليل يطبق مرة أخرى، فتشربه المدينة. خاوية المعابر والدروب تتفتح فيها مصابيح الطريق مثل الأزهار. وقد تطور عبر السنوات شكل المصباح، فبات يصنع من الزجاج بدلا من الفخار، وله قواعد لنصب الشمع. ثم زاد عليه مرآة أو أكثر، كى تعكس الإضاءة فيزيد قوة النور. وفى المدن القديمة، غالبا مدن السلطنة العثمانية، كان الحارس الليلى ( ويسمى الدومرى أو المشعلجى ) يكلَّف بإنارة المصابيح التى تعمل بالشحوم أو الزيت، ثم الغاز، حاملاً عصا طويلة فيها مشعل، يضيء بها المصباح. مع دخول الليل، يقوم المشعلجى بإشعال الأعمدة، ومع بزوخ النهار يقوم بالمرور مرة أخرى لاطفائها. بلغ عدد المصابيح 2696 مصباح فى غرة يناير 1887. وفى 11 مايو 1895 بدأت الكهرباء تدخل مصر عندما تم افتتاح أول محطة لتوليد الكهرباء. وقد أسند انتاج غاز الاستصباح المستخرج من الفحم الحجرى إلى شركة ليبون بمدينة الإسكندرية.. والذى تم استخدامه فى إضاءة الشوارع، وإضاءة قصور الأمراء والأثرياء. وكان أول مشترك كهرباء فى مصر هو مكتب المحامى الشهير (مانوزدى) الذى اطلق اسمه على الشارع المؤدى إلى محكمة محرم بك حاليا شارع المحكمة. فقد كان مكتب (مانوزدى) يقع فى العمارة رقم 5 بالشارع المعروف الأن ب صلاح سالم بالمنشية. وفى نفس العام، تم إنارة جزء من شوارع مدينة القاهرة عام 1895 بموجب ترخيص من الحكومية المصرية لشركة «ليبون» لمدة خمسين عاما، إنتهت عام 1948، ثم تسلمتها بعدها وزارة الأشغال والطاقه المصرية.