من الصعب أن توجد كلمات نصف بها حجم الثراء والزخم الفنى الذي تركه الأديب الراحل نجيب محفوظ والذي تمر 10 سنوات على رحيله، نجيب محفوظ صاحب الأعمال الخالدة والمحفورة في ذاكرتنا تحمل رواياته عناوين لحيوات مختلفة، دائما ما نقف أمامها نستعيد بعضا منها ونحّن الي شخوصها، ورغم أرقام المبيعات التى لا تزال روايات نجيب محفوظ تحققها، ورغم عدد رسائل الدكتواره والماجستير، التى لا تزال تناقش أعماله وتعيد اكتشافها إلا أن السينما المصرية والتى خلدت معظم أعمال الراحل، صارت هي الأخرى تضم أيقونات خالدة لشخصيات نسائية قدمت في أعمال نجيب محفوظ وهي الشخصيات التى تحولت الي لحم ودم وصارت مرتبطة بالنجمات اللائي جسدن هذه الشخصيات بل إننا عندما نستدعي اسم فنانة منهن يقفز بالضرورة اسم وملامح وشكل الشخصية التى جسدتها من أدب نجيب محفوظ مثلا شادية وسط العدد الكبير من الافلام التى قدمتها إلا اننا نستدعي فورا «حميدة» في «زقاق المدق، و»نور» في «اللص والكلاب»، كريمة فى «الطريق» و»زهرة» في «ميرامار»، سناء جميل «نفيسة» في فيلم «بداية ونهاية»، سعاد حسنى «احسان» في القاهرة 30، جملات زايد الست أمينة في الثلاثية، نادية لطفي ريري في السمان والخريف، جليلة في حديث الصباح والمساء وأخيرا «تحية عبده» في أفراح القبة، وغيرهن كثيرات. ............................................................................................. .والمفارقة الحقيقية أن نموذج المرأة الضعيفة المستكينة أو التى تنحرف عن الطريق كان موجودا بكثافة في أدب نجيب محفوظ، والروايات التى قدمت في السينما ستجد أن نموذج الغوازى، والمرأة المقهورة والعاشقة والمضحية حاضرا بقوة ورغم ذلك لم تتخذ الحقوقيات والمدافعات عن المرأة موقفا معاديا من الكاتب الكبير، العكس تماما أن أغلب شخصياته النسائية صارت مرادفا لقسوة مجتمع يعامل المرأة دائما علي أنها مواطن درجة تانية، وقد يكون السبب الرئيسى في ظنى ان محفوظ عشق شخصياته بكل تناقضاتها، وهو الحب أو العشق الذي انتقل بالضرورة لكل محبيه أو من شاهدوا هذه الافلام فيما بعد.. من منا لم يتعاطف مع نفيسة ويراها ضحية للفقر والمجتمع الذكورى المتسلط؟ أو من منا لم يتعاطف مع قصة حب نور ومحاولاتها الدفاع عن حبيبها سعيد بكل الطرق الممكنة أو غير الممكنة؟ وأيضا احسان كانت ضحية لكل الظروف من حولها. «إحسان شحاتة» واحدة من أجمل الشخصيات النسائية التى صاغها محفوظ بعبقرية فهي طالبة معهد التربية، والتى تنتمى لأسرة شديدة الفقر، مثقلة بأعباء الحياة، ولكن فقرها لم ينسها أنها انثي ليس ذلك فقط بل هي أنثي شديدة الجمال وتقع في حب الطالب الثوري «علي» وتقع احسان فريسة لتناقض هذا المجتمع الفقر لا يرحم وأشقاؤها بطونهم جائعة ووالدها لا حول له ولا قوة لذلك لا يتبقي لها سوى جمالها، خصوصا أن حبيبها يعيش في عالم مثالي وخيالي وتسقط إحسان صريعة لمجتمع لا يعترف إلا بالثروة والنفوذ، تسوده المحسوبية والانتهازية، ويكون عليها أن تختار على بأحلامه وفقره وتترك أسرتها تموت أو تختار المال والنفوذ حتى لو كان ذلك علي حساب كرامتها وإنسانيتها وتقبل أن تتزوج من رجل «ديوث»، لا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يعيد صياغة شخصية إحسان شحاتة بنفس التركيبة والثراء الدرامي كما صاغها نجيب محفوظ أو يحولها إلي لحم ودم كما فعلت سعاد حسنى. علي النقيض من إحسان تأتى شخصية «حميدة» في زقاق المدق وهي الشخصية التى جسدتها الرائعة «شادية» وهي فتاة جميلة تعيش بين شخصيات زقاق المدق الذي تصفه في النهاية بأنه زقاق العدم، وحميدة كما يصورها «نجيب محفوظ» في الرواية هي شخصية شديدة الطموح شديدة الطمع، عيونها الجميلة تتطلع إلى ما هو أبعد من عالم الزقاق، تحلم بالملابس الفخمة والحياة الثرية والمرفهة متمردة شغوفة بالخروج من الشرنقة التى تعيش فيها رغم اعجاب العديدين من أهل الزقاق بها وتحديدا «عباس الحلو» ولكن حميدة تطمع وتطمح فيما هو أكبر وأفضل من وجهة نظرها، لذلك يكون من السهل وقوعها ضحية لواحد من تجار اللحم..وهي نفس الشخصية التى أثارت واستفزت النجمة العالمية سلمى حايك فقدمتها أيضا. أما شخصية «نفيسة» احدى أيقونات الشخصيات النسائية التى صاغها نجيب محفوظ وجسدتها العبقرية سناء جميل، هى ضحية للفقر ولكنها أيضا ضحية لقلة نصيبها في الحياة فهي قليلة الجمال دميمة حسب وصف الكاتب الكبير في الرواية، جاهلة وإذا كانت احسان جميلة، وحميدة جميلة وطموحة فان نفيسة دميمة وفقيرة وجاهلة وفقرها لا يترك لها أملا في الزواج، لقد تحالف عليها ما يدمر حياة أي فتاة، ولو كانت نفيسة غنية لربما وجدت من يتغاضى قبح ملامحها، وأعتقد ان نفيسة أجمل ما فيها ان تركيبتها تشبه تركيبة النفسية للأبطال التراجيديين والذين يمشون الي قدرهم بشكل حتمى ومرسوم وتحاصرها الحياة من كل ناحية لذلك كتب عليها الموت مرتين: في الأولى عندما استسلمت لأول كلمة حب تسمعها وسلمت أذنها وصدقت ذلك الوغد وسلمت روحها ونفسها أيضا والثانية عندما أشعرها شقيقها الطموح حسنين بأنها عقبة في مشوار صعوده الاجتماعي فألقت بنفسها في النيل. اذا أردنا ان نقولها بثقة وحسم هل صنع محفوظ نجومية العديد من ممثلات السينما المصرية؟.. الاجابة قطعا انه فعلها بتركيبات شخصياته الثرية والمختلفة وغير النمطية من كان يصدق أن نادية لطفي تلك الفاتنة ذات الملامح الأوروبية البيضاء صاحبة الطلة الأخاذة.. بنت الصعيد التي درست الألمانية وتعلمت ركوب الخيل.. خلعت تلك الصورة النمطية وألقتها وراء ظهرها لتجسد دور «زنوبة» الراقصة وتغنى وتتقصع وهي تقول :»اوعي تكلمنى بابا جاي ورايا» أو تجلس الي «طشت الغسيل» كاشفة عن قدميها وهى تغنى وتتمايل لياسين وكيف تمردت أكثر وأكثر مع نجيب محفوظ وقدمت شخصية «ريري» فتاة الليل في السمان والخريف وبائعة البرتقال في «الأقمر». في أحد حواراتها تقول نادية لطفي :«إن أكثر ما أثار الرعب داخلي هو تمثيل دور الراقصة.. ف«زنوبة» كما كتبها كانت نموذجا للعالمة الجبارة لاهم لها سوي المال وزنوبة كانت إنعكاسا أيضا لحالة مجتمع مفكك تصنع قراراته الراقصات». جليلة في «حديث الصباح والمساء» جسدتها عبلة كامل في مسلسل تليفزيونى صاغ له السيناريو والحوار الكاتب الراحل وأحد تلاميذ نجيب محفوظ محسن زايد، مسلسل صنع نجومية كل من شاركوا فيه بشكل أو بآخر، تلك العجوز التى جاوزت المائة من عمرها، تكتسي بالسواد، بالانحناءة ذاتها تجلس كل صباح إلى «سبرتاية» القهوة، تسويها على مهل، وتحملها إلى فنجانها قبل أن تفور. وما إن تبدأ في ارتشافها حتى تغرق في ذكرياتها، مع زوجها الشيخ الأزهري معاوية القليوبي، وجليلة في «حديث الصباح والمساء»، هي الزوجة والأم والجدة الوتد، والتى رغم مظهرها الذى يحاكى الكثيرات من سيدات مصر فى تلك الفترة التاريخية إلا أنها من أكثر شخصياته النسائية تعقيدًا. ورغم طول القائمة وتعدد نماذج الشخصيات النسائية التى صاغها العبقري محفوظ في السينما والدراما تأتى النجمة منى زكي لتكون آخر المنضمات لتلك القائمة بدور تحية عبده التى جسدته في مسلسل أفراح القبة والذي عرض في رمضان الماضي تلك الفتاة الطموحة الحلوة والتى تعانى الفقر وفساد الظروف من حولها فهي ضحية لنكسة بدرية والدتها والتى اكتشفت أن زوجها ووالد بناتها له ميول جنسية شاذة، وهي المرأة التى لم تتردد أيضا في أن تتاجر بجسد بناتها، ونكسة مجتمع بالكامل ولذلك ذهبت ضحية المستغلين من حولها والطامعين فيها، تحية المتمردة والتى تخطو في أول مشاهدها مثل غزالة صغيرة تقفز برقة تحاكى تفاصيل جسدها النحيل ووجها الباسم، وتسأل أحد العاملين عن مدير المسرح، فيرد: «المدير مرة واحدة!»، ثم يشير لها باتجاه «عم برجل» المسئول عن البوفيه فى المسرح، وهو المخضرم والعالم ببواطن الأمور، فى هذا المشهد تروى قصة «تحية عبده» من وجهة نظرها، حيث دخلت إلى المسرح، ذلك المكان الذى حلمت وتمنت أن تكون واحدة منه، لتصبح نجمة مشهورة، ولكنها لم تكن تعرف ما يخبئه لها القدر، حيث اغتالها وساهم فى قتل روحها كل من تواجد فى هذا المكان. بشكل أو بآخر فى هذا المشهد تحديدا ترسم منى زكى بحرفية ومهارة عالية ملامح تحية عبده «بنت بدرية» خطواتها داخل المسرح، وكيف تنتقل بعينها لتحفظ تفاصيل المكان، وكيف تجذب فستانها على جسدها وتشده مع كل خطوة ليصير أكثر ضيقا لإبراز مفاتنها وهى تردد بينها وبين نفسها جملة «تشتم بها خياطة الفستان» التى جعلته واسعا من عند الوسط.