الحج فرحة ووعد ويارب يكون مقسوم ، وحكاياته كلها قدسية وطهارة ومشقة وحب ، حكايات أهل بلدنا البسطاء عن الحج وزيارة النبي الغالي كلها حنين وعشق مُغلف بالدموع الطاهرة النبيلة ، دموع المشتاقين المحبين ، الفقراء الي الله ، الطالبين لعفوه ورضاه ، المتمسحين بأستار كعبته وأهداب رحمته والمتتبعين لخطي نبيه والتابعين لسنته ، وحكايات الحج وزيارة بيت الله الحرام في بلادنا تبدأ ولا تنتهي ، فلكل إنسان حكاية وذكري وطلب ودعوة ورغبة أسر بها الي خالقه ، بعضهم تحققت دعواته ورغباته وأمنياته وأخرين مازالوا يرجون رحمة الله بعضهم عاد من الأراضي المقدسة ومازالت قلوبهم وأرواحهم هائمة حول الكعبة أو فوق جبل عرفات وأخرون تعلقت أرواحهم بالروضه حيث إلتقوا بالنبي وإستحلفوه أن يشفع لهم وأرسلوا له تحيات الأهل والجيران والأحبة وأصدقاء الأصدقاء وكل من إستحلفهم أن يذكروهم عند النبي الغالي وبعضهم إتسع قلبه ليبلغ النبي الكريم سلام الأمة الإسلامية كلها، وبين رحلة الذهاب والعودة حكايات شوق ومحبة سجلها المصريون ببراعة في أماكن لم تخطر علي بال أحد، نعم فلم يسجلوها في لوحات أو أوراق أو حتي علي رقائق من جلد الماعز بل تجلت عبقرية المصري في أنه سجل رحلتة المقدسة علي جدران المنازل في صورة بدائية وصادقة من الجرافيتي الحديث - ليراها القاصي والداني ، في غدوهم ورواحهم ليعرف الجميع أن في المنزل " حاج " وقد ظهرت هذه الإبداعات علي المنازل الفقيرة والبسيطة في الصعيد ووجه بحري ، في الأزقة والحارات ، في المناطق الشعبية وبعضهم وصل بهذه الرسومات البسيطة الرقيقة والرائعة الي جدران بعض المنازل في مصر المحروسة ( القاهرة ) .. وقد لفتت هذه الفكرة الفنية العبقرية أنظار الجرائد الأجنبية فقام مراسلوها ورساموها بنقل صورة لما يقوم به المصريون علي جدران منازلهم إبان الإستعداد لموسم الحج والذي قد يمتد لعدة أشهر حيث كان الحج يتم بواسطة الجمال وركوب البحر بطرق بدائية بسيطة تستغرق وقتاً طويلاً ... وهذه الحكاية هي موضوع هذا الأسبوع من خلال ما سجلته ونشرته جريدة الجرافيك The Graphic الإنجليزية بتاريخ 1 مارس 1902 وهي لوحة للفنان بويد الكسندر ستيوارت ( 1854 - 1930 ) الذي زار مصر وإنبهر بفنانيها البسطاء فرسم لوحة لأحدهم وهو يرسم رسومات بسيطة لمراحل الحج علي جدران أحد المنازل ، وتظهر اللوحة الرجل يرتدي جلباباً كعادة الرجال في صعيد مصر ويقف علي مصطبة عالية ويمسك بيده فرشاه وباليد الأخري علبة الألوان ويرسم مشاهد لرحلة الحج علي واجهة منزل بسيط وتظهر الرسومات مشاهد لقطار بعدة عربات و سفينة وهلال وقافلة تظهر فيها جمال وأحصنة ونخيل وهي كلها مفردات فنية تشرح رحلة الحاج التي يقطعها بواسطة القطار والباخرة وعلي ظهور الجمال ويعبر فيها الصحراء المشهورة بنخيلها وهو يترقب هلال شهر الحج وحول الرسام المنهمك في عمله يقف بعض الجيران والمارة يرقبونه بإنبهار ويتناقشون وبينهم رجل ملتح قد يكون هو الحاج نفسه الملئ بالفخر وهو يري رحلتة المقدسة مجسدة أمامه في لوحات وبعض الأطفال والصبية المندهشين بالفنان وعمله بينما يواصلون العابهم ولهوهم وفي المشهد سيدة تعبر المكان ربما تكون في طريقها الي السوق .. بإختصار هي لوحة مليئه بالحياة لأحد شوارع مصر منذ أكثر من 114 عاماً . ولمن لا يعرف فرسومات الحج هو فن مصري صرف يعكس فرحة المصري بإتمامه لأحد شعائر دينه وهو فن بدائي منتشر في كثير من القرى المصرية وخاصة في الصعيد وغالباً ما يقوم الرسامون برسم الكعبة وطائرة وباخرة وجمال ونخيل بالإضافة لكتابة بعض الأيات القرآنية لتعريف الناس بأن صاحب البيت زار بيت الله الحرام وأتم مناسكه ومن فرط سعادته بهذه الرحلة الروحية أرادذ تخليد كل ذكري فيها . وقد أشار المستشرق الإنجليزي إدوارد لين في القرن ال 18 في أحد كتبه الي أن المصريون كانوا يقومون بتزيين بيوتهم برسومات الحج قبل عودة الحاج بثلاثة أيام فيقومون بتلوين الباب والحجارة باللونين الأبيض والأحمر بطريقة بدائية وقد تكون هذه إمتداداً للعادات الفرعونية في تزيين البيوت في المناسبات الدينية . ويقول أفون نيل في كتابه «رسومات الحج: فن التعبير الشعبى المصرى عن الرحلة المقدسة» الصادر عن المركز القومى للترجمة «لا يقطع المسافرون داخل مصر مسافات طويلة دون أن يصادفوا فى طريقهم منازل تغطى جدرانها رسومات بسيطة غاية فى الإبداع، وتزينها خطوط لكتابات عربية غاية فى الإتقان، هذه هى منازل الحجاج الذين سافروا إلى مكةالمكرمة، الأعداد الكبيرة من هذه الدور تزين سنويا بالصور المرسومة احتفاء بعودة الحجاج، وهذه اللوحات لا تعد من قبيل التذكير بالرحلة المقدسة فقط، بل تعكس نماذج ملونة من فن الرسم الشعبى الحديث الأكثر شهرة فى عموم محافظات مصر كلها». وتقول الحكايات المتواترة أن هذا الفن بدأ كهواية يقوم بها أصحاب المنزل الذين يجيدون الرسم أو من يريدون تقديم واجب التهنئة للحاج ثم تطور الأمر ليصبح أكثر إتقانًا وحرفيةً فظهر الرسامون والخطاطون الذين إحترفوا هذه المهنة وجودوا فيها لتصبح رسومات وكتابات علي مستوي عال من الجودة كلها تشرح هذه الرحلة الروحية .. والأكيد أنه رغم كون هذه اللوحات تتسم بالبساطة إلا أنها تشع روحانية وشفافية وتطلق مجالاً إيجابياً حولها .. فهي بحق لوحات تشع بالفرحة والبهجة بألوانها الزاهية الجميلة وتجعل كل من يراها يتمتم بالأغنية الشهيرة التي تغنت بها ليلي مراد " يا رايحين للنبي الغالي هنيالكم وعقبالي "