تحمل فريضة الحج لدى ملايين المسلمين الأهمية الروحية، لكنها حوت معها العديد من الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بل والثقافية عبر مر القرون، والتي كانت ومازالت تربط بين المسلمين في كل أقطاب المعمورة. وفي عصر الاستعمار على وجه التحديد أصبح الحج من أهم الملفات التي أصبحت تؤرق السياسة الأوروبية وذلك بسبب الذعر السياسي من تنامي روح «الجامعة الإسلامية» الذي كان يتنامى بين الحجاج الوافدين من المستعمرات في مكة، وكذلك الخوف من انتشار الأوبئة والأمراض المحتملة في تجمعات الحج الكبيرة وخاصة بعد استخدام طرق السفن في نقل آلاف الحجاج من وإلى المستعمرات، ناهيك عن العائد الاقتصادي الذي كانت تجلبه شركات السفن الأوروبية من نقل الحجيج. لذا أصبح الحج جزءا من الصراع الأوروبي على النفوذ والهيمنة في العالم الإسلامي في عصر الاستعمار. ...................................................................................... على الرغم من أن مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة كانتا رسميا تحت الحكم العثماني، وضعت ملفات الحج تحت إشراف القوى الاستعمارية الأوروبية بشكل ملفت للانتباه. ولذلك فقد أصبحت هذه الفريضة الإسلامية ساحة هامة للسياسة والتوسع الأوروبي في السلطنة العثمانية خلال القرن التاسع عشر. وقد ساعد في هذا الأمر أن أصبح الحج جزءا من مجال السفن التي كانت تتحكم فيها غالبا تلك القوى العظمى، والذي اختصر رحلة الحج في أيام،بعد أن كانت تستغرق شهورا أو حتى سنوات عن طريق البر أو البحر في الماضي. وفي سياق هذه المنافسة الأوروبية من أجل توسيع السيادة البحرية من خلال الحج،زادت مراقبة الحجاج، وكثرت معها المخاوف من انتشار الأمراض الوبائية مثل الكوليرا والطاعون، مما جعل الحج لدى القوى الاستعمارية يكتسب بهذا المعنى العديد من الجوانب التي تتعلق بوسائل النقل الحديثة، والصحة، والتجسس، إلى جانب المصالح السياسية الاستعمارية والتجارية، والدبلوماسية. وعلى صعيد آخر كانت مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، ولا تزالان، مراكز هامة للتعليم الديني حيث كانتا تستقطبان طلابا مسلمين من كل أنحاء العالم. كان مثل هؤلاء الطلاب يحملون معهم إلى بلادهم نزعة مكافحة للاستعمار، والتي كانت تنشأ على إثرها شبكات إسلامية وطنية مناهضة للاستعمار بكافة أشكاله، ترتبط ببعضها في أماكن مختلفة في العالم الإسلامي. لذا أصبح هذا هاجسا لدى كل الحكومات المستعمرة، مما دعا إلى تفعيل دور القنصليات الأوروبية في جدة، ووضع الحجاج تحت المراقبة الشديدة، وإرسال تقارير مفصلة عن أي تيار مقاوم محتمل بين هؤلاء الحجيج، هذا إلى جانب تنامي دور هذه القنصليات في جدة في القرن التاسع عشر في مجال التبادل الاقتصادي والتجارة في منطقة البحر الأحمر والخليج العربي. وأصبحت الدول الأوروبية الاستعمارية أيضا قلقة إزاء انتشار الأمراض إلى المستعمرات الأوروبية، مما جعل هذه القوى الأوروبية تدعو إلى تشديد معايير الصحة والسلامة الدولية للحج ليس فقط باعتبارها استراتيجية طبية لمنع انتشار الأمراض الوبائية،بل بوصفها أداة مراقبة في مناطق المحاجر الصحية على هؤلاء الحجاج. وقد لعب البريطانيون والهولنديون الدور الأكبر في إدارة هذا الملف في شبه الجزيرة العربية نظرا لكثرة عدد الحجاج الآتين من تلك المستعمرات. في هذا الوقت بالذات كان الصحافة الأوروبية تنظر إلى مكة على أنها «بوابة للتلوث» لأوروبا خوفا من انتشار الكوليرا وغيرها من الأمراض بعد كل موسم حج. لقد سجلت أول حالات كوليرا عام 1817 في الهند، والتي انتقلت إلى الحجاز في عام 1821، وبعدها في 1831 مما أدى إلى وفاة قرابة 20 ألف شخص في الجزيرة العربية. وقد وضع ملف الحج وتداعياته على الصحة العامة على قائمة أعمال المؤتمر الصحي الدولي في باريس عام 1851 لأول مرة، مما جعل فرنسا تضع نفسها في طليعة الحملة الدولية لتنظيم السفن والحجاج المتوجهين إلى مكةالمكرمة، وذلك لتخفيف حدة الدعوة لحظر الحج في المستعمرات، والتي كانت بدأت تتردد في بعض أوساط الرأى العام في بعض الأحيان.وفي عام 1865 حصد وباء الكوليرا أرواح 15 ألف حاج من 90 ألفا حتى وصل إلى بقاع عديدة في العالم منها أوروبا؛ وقتل أكثر من 200 ألفا شخص. وأضحى هذا التهديد الوبائي للأوروبيين سلاحا سياسيا في يد الحكومات لتسليط الضوء على الحج كناقل لانتقال المرض.وكان هذا الملف الصحي،وتسليط الضوء على حالات سوء معاملة الحجاج تحت حكم البريطانيين، يستخدم أحيانا كوسيلة ضغط سياسي كما كانت بريطانيا تفعل كوسيلة لممارسة النفوذ البريطاني في المنطقة على الحكام المحليين في الجزيزة العربية. ومن أجل وضع استراتيجيات واضحة للتعامل مع ملف الحج قامت القنصليات الأوروبية في جدة بتفعيل دورها في نهاية القرن التاسع عشر وذلك عن طريق تعيين موظفين من ذوي أصول إسلامية حتى وصل بعضهم لمناصب نواب قناصل، مثل الهندي مونشي احسان الله نائب القنصل البريطاني في ذلك الوقت، والذين كانوا يقومون بدورهم في إعداد تقارير سياسية عن مكة والحجاج كانت ترسل إلى وزارات الخارجية والمستعمرات. وعلى صعيد آخر أصبحت هذه القنصليات تعمل على تشجيع الأوساط الأكاديمية المتخصصة في الدراسات الإسلامية في الجامعات الأوروبية لعمل دراسات معمقة وميدانية أحيانا فيما يخص منطقة الجزيرة العربية ومكة خصيصا لو أمكن. وقد شكلت هذه المحاولات كما معرفيا هائلا عن الحج سواء في الأوساط السياسية والأكاديمية أو العامة في الصحف والجرائد، وكذلك نشر الرحلات التي قام بها بعض الأوروبيين الذي دخلوا مكة إما خلسة أو بعد إشهار إسلامهم. وقد سجلت أول حالات لدخول أوروبي مكةوالمدينة بيد الإيطالي Ludivico di Varthemaالذي قيل أنه دخل مكةوالمدينةالمنورة في عام 1503، ونشرت رحلته باللغة الإيطالية في روما في 1510، وترجمت إلى اللاتينية في ذلك العام نفسه، وإلى الألمانية والفرنسية والاسبانية والهولندية والإنجليزية قبل نهاية القرن السادس عشر. والرحلة مملؤة بالمبالغات حيث ادعى أنه رأى اثتين من الحيوانات الخرافية ذات القرن الواحد في صحن المسجد الحرام، وكذلك كان ينظر إلى الإسلام نظرة منحطة حيث يصف مكتبة المدينة على أنها مملوءة «بالتقاليد البالية». تم تبعه بعد ذلك البحار الفرنسي Vincent Leblanc من مرسيليا، والذي ادعى هو الآخر زيارة مكةوالمدينة في عام 1568، لكن زيارته تعد أسطورية ليست مبنية على حقيقة. وفي عام 1607 دخل الشاب النمساوي Johann Wild، والذي دخل مكة كخادم لسيد فارسي عن طريق القاهرة،بعد وقوعه في الأسر في هذه السنة. تم بعد ذلك جاء كل من العبد الإنجليزي Joseph Pitts في عام 1680، والإسباني Badia y Leblich الذي أدى فريضة الحج في عام 1807 وأسمى نفسه علي باي العباسي، والروسي الأصل Ulrich Jaspar Seetzen والذي أدى الحج في عام 1810، وكان يجيد العربية بطلاقة. ثم جاء المستكشف السويسري John Lewis Burckhardt والذي تعتبر رحلته بداية أخرى في تاريخ الرحلات الأوروبية إلى مكةوالمدينة، وقد خدم التوصيف الدقيق في مثل هذه الرحلاتالاستعمار والنفوذ الأوروبي في الجزيرة العربية. ومن ضمن هذه الأسماء التي لمعت لاحقا هو المستشرق الهولندي كريستيان سنوك هرخرونيه Christiaan Snouck Hurgronje الذي دخل جدة في أواخر عام 1884 وبعدها مكة في 1885 بعد أن ادعى اعتناق الإسلام واختتن وسمى نفسه عبد الغفار، ومكث في مكة قرابة ستة أشهر يسجل ملاحظاته، حتى أصبح أول أوروبي يدخل مكة بكاميرا تصوير والتي قام عن طريقها بتصوير أعيان جدةومكة. وفي مكة كان يستخدم منزل صديقه «عبد الغفار» المعروف بطبيب مكة كاستديو للتصوير والتحميض. وقد علم سنوك صديقه المكي عبد الغفار بعض آليات التصوير وتقنيته، فأصبح التصوير أداة هامة لسنوك دخل بها في دوائر أعيان مكة، ولم يكن يستطيع التصوير في الشارع. ثم اتخذ جارية حبشية لعبت دورا في بنقل أخبار البيوت وتعريفه بأوضاع المرأة في مكة. وبعد مشكلة حدثت مع مستشرق فرنسي وانكشاف أمره اضطر سنوك ترك مكة قبل موسم الحج هربا وخوفا على حياته. وترك الكاميرا عند صديقه عبد الغفار المكي الذي ظل يزوده بصور لمكة والحج عن طريق القنصلية الهولندية في جدة حتى عام 1889 تقرييا. وأثناء إقامته في مكة قام بجمع الكثير من المعلومات عن أهل البلدة وخاصة الإندونسيين خلال إقامته بمكة ونشر ألبومين لصور مكة معتمدا على صوره وصور عبد الغفار الطبيب، والذي لم يشر إليه بشكل صريح كمشارك رئيسي وهام في هذا المشروع. وألف سنوك بعد ذلك كتابًا سماه صفحات من تاريخ مكة، وكتب الكثير عن المدينة كذلك. وقد أرسل سنوك بعد ذلك أيضا جرامافونا إلى مكة عن طريق القنصلية الهولندية وذلك لتسجيل بعض التلاوات للقراءة والموسيقى والأغاني المكية، والتي ما زالت تحتفظ بها مكتبة جامعة لايدن إلى الآن. وقد لعب سنوك دورا هاما في السياسة الهولاندية في جزر الهندالشرقية الهولندية (إندونسيا) حيث عين مستشارا للشئون العربية والإسلامية في جاوة من عام 1887 إلى عام 1906، أصبح بعدها أستاذا للدراسات السامية والعربية في جامعة لايدن ليؤسس صفحة جديدة في الدراسات الاستشراقية، والتي بنيت شهرتها في الأساس على تكوينه المعرفي بمكة والحج. .......................................................................................... استاذ الدراسات الإسلامية بجامعة اوتريخت الهولندية