تبدو قدرة الأدب الحقيقية فى اختراق القشرة الكثيفة للواقع، فى سعيه إلى الاستشراف المتصل برصد الراهن وأزماته، وهنا فى رواية «بوركينى» للكاتبة الروائية اللبنانية مايا الحاج، والصادرة فى طبعتها الأولى منذ عامين تقريبا، عن منشورات الاختلاف/ الجزائر، وضفاف/ بيروت، أى بما يسبق الجدل الدائر الآن بشأن ارتداء البوركيني، هذا الجدل الذى أخذ حيزا ضخما فى الفضاء العام، فأقرته حكومات، ومنعته أخرى، وبدا تعبيرا عن مأزق يختص بفكرة الهويات المتصارعة، خاصة بعد وقوع العالم فى أسر العنف المسلح للجماعات الإسلامية فى الآونة الأخيرة. فى «بوركيني» يمثل العنوان بنية دالة، أى أنها قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار السردى للرواية، إنه تمثيل لتلك الذات القلقة، التى تود أن تجمع بين نقيضين، فى صيغة واحدة، وتأتى الإحالة المباشرة إلى العنوان، عبر ربطه بحركة الشخصية المركزية فى الرواية، وعلى لسانها أيضا: «لكننى فى أحيان كثيرة أتعجب من حياتى التى تعج بهذا الكم من المتناقضات. ولو أردت أن أضع لهذه الحياة التى أعيشها عنوانا، لما وجدت أفضل من «بوركيني» ذاك الاسم الذى «اشتقته الأسترالية المسلمة من كلمتين متناقضتين «برقع» و«بيكيني» لتطلقه على زى سباحة صممته لنفسها ولكل امرأة يمنعها حجابها من مرافقة أصدقائها وأسرتها فى رحلاتهم البحرية».( ص 72). هنا فى «بوركيني» تجدل مايا الحاج الخاص بالعام، وتمزج الذاتى بالموضوعي، حيث تنطلق من أزمة بطلتها المركزية، تلك الفنانة التشكيلية التى يجتاحها صراع نفسى يسمى بصراع «الإقدام/ الإحجام» حيث التردد ما بين الرغبة العارمة فى التحرر، والالتزام الداخلي، هذه الأزمة التى تحمل وجوها متعددة فى الرواية، وتطل عبر صيغ/ أسئلة مختلفة، تتمحور حول الحرية والالتزام تارة، والفن والمسئولية تارة أخرى، وليس ثمة إجابة قاطعة هنا فى نص قلق، وشاك ومتسائل، ينطلق من تيمة المساءلة للذات، ولواقعها المشوه، فالصور النمطية الجاهزة تغلف كل شيء، وتعيد تشكيل العالم من جديد فى أذهان النخب والعوام على حد سواء، وبما يعنى أن ثمة حاجة حقيقية إلى تفعيل المنطق الديمقراطى للسرد، والذى يتجلى عبر حضور متنوع لشخوص مختلفين داخل الرواية: الرسامة المضطربة/ الحبيب الجنتلمان الذى تستهويه الصيغة التوفيقية للفتاة/ الفتاة المنافسة الممثلة للبطل الضد، والتى تمارس الحرية باتساق شديد مع الذات/ الأبوان المنفتحان على العالم، والداعمان للبطلة المركزية وشقيقتيها / الجدة المحافظة التى تملك علاقة خاصة مع حفيدتها الفنانة التشكيلية منذ الطفولة/ صديقة البطلة التى تقف على طرف نقيض معها، لكنهما ترتبطان بعلاقة إنسانية نبيلة، وكأنها حركة انجذاب الأضداد المتنافرة حين تخلق ظلالا نفسية متشابكة. تبدو الفنانة التشكيلية مركز السرد وجوهره فى الرواية، ويحتل الجسد حضورا كميا مميزا فى المتن السردي، وتقدمه الكاتبة هنا بوصفه أداة لفهم الذات، ومحاولة للاستبصار. توظف الكاتبة ضمير المتكلم (الأنا) فى السرد، بما يحمله من إمكانات للبوح، والرغبة فى مساءلة الذات والعالم، وتبدو آلية الاعتراف إحدى أهم التقنيات الأساسية التى تعتمدها الرواية، مثلما تبرز فكرة مراجعة الذات وخلخلة قناعاتها المستمرة صوب عالم متغير، استهلاكى الطابع، تبدو فيه المرأة ابنة لسياق من التشيؤ والاستلاب، هذا الذى يزداد ضراوة فى مجتمعات ذكورية قامعة، تختزل المرأة فى جسدها، وتحيلها إلى مسخ شائه، وتابع. من لحظة متوترة دراميا يبدأ النص، فثمة بطلة فى أزمة، فتاة مثقفة وموهوبة فى فنها، تنتمى لأسرة لبنانية منفتحة، تقرر أن ترتدى الحجاب على الرغم من معارضة أهلها الشديدة لها، لكنها تكتشف بعد فترة قليلة أن جمالها الأخاذ بدأ فى التواري، وأنها أضحت من نساء الظل، ويدور داخلها صراع عنيف، يعد فى جوهره تعبيرا دالا على مجتمع ممزق، بين الموروث والحداثة، موزع بين ماضيه وراهنه، وتزداد أزمتها لارتباط الشاب الذى ستتزوجه بفتاة أخرى أكثر حرية وانفتاحا، وبدءا من الفصل الثانى فى المقهى ووصولا إلى الفصل السابع/ الأخير: «فى المعرض» تبدو الفتاة المتحررة ظلا ثقيلا على سيكولوجية البطلة المركزية فى الرواية، ومن ثم تفكر الساردة/ البطلة فى مصالحة أيديولوجية فى نهاية النص حين تخرج بعض خصلات شعرها الرائق من تحت المنديل، لكن ظل المرأة الأخرى التى تنتمى إلى نساء الضوء لم يزل مهيمنا، تراه فى نظرات رجلها إليها، وفى وداعه إياها فى نهاية الرواية وداعا يبدو مؤقتا وفق آلية إكمال الفراغات النصية التى ينهض بها القاريء النموذجي. ينفتح النص على عوالم متعددة، وفنون بصرية مختلفة، فيحيل إلى السينما والمسرح والرسم، وتحضر داخله أسماء لشخوص واقعيين يتم تضفيرهم فى المتن السردي، مثل الإشارة إلى الممثل العالمى مارلون براندو، أو الإحالة إلى الكاتب الأمريكى إدوارد ألبى ومسرحيته الشهيرة ثلاث نساء طويلات، أو الإحالة إلى رسامين عالميين مثل المكسيكية فريدا كاهلو، والسويسرى ألبرتو جياكوميتي، وغيرهما. تبدو المرأة وظلها، تعبيرا عن جدل الحضور والغياب فى النص، حيث تتقاطع المساحات الشعورية واللاشعورية، لتكشف حالا من التوزع بين مسارين، أو رؤيتين متمايزتين للعالم: «اللعبة التى جعلت منى امرأتين بجسدين وروحين لم تزعجنى قبل هذه اللحظة. لا، هى ليست لعبة، بل إنه القدر الذى جعلنى أعيش حياتين فى حياة واحدة. هكذا ولدت. رغبتان تتقاسماني. رغبة بالتخفي، وأخرى بالتجلي. كأن القدر تقصد أن يهبنى بدل الحياة اثنتين. ولهذا بتُّ أعيش بشخصيتين». ( ص 49). فى «بوركيني» حضور لتيمة الاغتراب عن الذات، التى تنتج عن إخفاق الإنسان الفرد فى أن يكون ما يريده، فحالة التوزع التى أصابت الساردة البطلة جعلتها مضطربة ومرتبكة فى آن، تسير مع زوجها فى نهاية الرواية بخطوات ثقيلة وصامتة، وكأن خرسا ما أصابها، تغالب دموعها المتساقطة، وتسير إلى حيث لم تعد تدري، فى إحالة إلى استلاب آخر، ربما سيكون عنوانا لمأزقها الوجودى الجديد. وبعد.. تبدو مايا الحاج فى «بوركيني» مشغولة بالتناقضات الإنسانية، حيث يصير الأنا هو الآخر، وتبدو الكتابة بحثا أصيلا داخل الذات فى سعيها صوب اكتشاف جوهرها الثري، وخلخلة المستقر من الصور والقناعات والأشياء. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله