كثيرات من النساء من أعلام التاريخ حزن أسباب المجد، ونلن شهرة واسعة لعوامل سياسية، أو لموهبة كبرى، أو لإبداع متميز، ويتخطى صيتهن صفوة المجتمع إلى عامته، فيكتسبن شعبية هائلة، وتتناول المخيلة الشعبية سيرتهن بانبهار، فتنقلها من الواقع إلى عالم الأساطير، فتضفي عليها وهجا مقاوماً للزمان. من هؤلاء الشاعرة الأندلسية الشهيرة «ولاَّدة بنت المستكفي». وهي واحدة من النساء النابغات في الشعر والفنون مثل «حُسّانة التميمية» و«أم العلا»، وتبوأت مكانة سامية في مجتمعها وزمانها، وحازت صيتا واسعا بسبب ثقافتها، وجمالها وفتنتها وزينتها، حيث قال عنها «لسان الدين بن الخطيب» شاعر الأندلس ومؤرخها في كتابه الجامع «اللمحة البدرية في الأخبار النصرية»: «.. والأندلسيات جميلات فاتنات، موصوفات باعتدال السِّمن وتنعم الجسوم، واسترسال الشعور، ونقاء الثغور، وطيب الشذا، وخفة الحركات، ونبل الكلام، وحسن المجاورة، وقد بلغن من التفنن في الزينة، والتظاهر بين المصبغات، والتنافس في الذهبيات والديباجات، والتماجن في أشكال الحلى.. إلى غاية بعيدة. فتبصرهن أيام الجمع كأنهن الأزهار المتفتحة في البطاح الكريمة تحت الأهوية المعتدلة!». وسبب ذلك أن حكام العرب والبربر شغفهم جمال فتيات أوروبا، وكان ملوك غرناطة يتزوجون بجاريات شقراوات، ذوات عيون زرقاوات، يتنافسن في اجتذاب رجال الفكر والسياسة والشعراء والفنانين، فكانت أمهات معظم أولئك الملوك من أصل أوروبي، ونالت المرأة هذه المكانة لأن القادة والمشاهير من أهل الأندلس كانوا يبالغون في كرمهن وتدليلهن ويسبغون عليهن كل صنوف الرعاية والعناية. وكانت الجاريات يتمتعن بثقافة واسعة بجانب الجمال والجاذبية، وهي ميزات بنات الأمراء والمشاهير وعلية القوم. وكانت «ولادة» من أشهرهن، الأميرة بنت الخليفة الأموي الأندلسي «محمد بن عبد الرحمن»، الملقب ب «المستكفي بالله»، أحد أضعف حكام الأندلس في فترة انهيار العصر الأموي الذي قام على أنقاضه عصر الطوائف. ولدت «ولادة» عام 1001 للميلاد، وعاشت في غرناطة ثراء وبذخ الأميرات، وحباها الله بموهبة شعرية فذة، ولها بيتان من الشعر طرزتهما بالذهب على عاتقي ثوبها فكتبت على أحدهما: أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها وكتبت على الآخر: وأمكن عاشقي من صحن خدي وأعطى قبلتي من يشتهيها وكان قصر «ولاَّدة» قبلة الأدباء والشعراء والكتاب، تستقبلهم كل ليلة ويلتفون حولها كدرّة متألقة، وتشارك في المساجلات الشعرية والمناقشات، ويجمع هذا اللقاء الرقص والموسيقى والغناء، وكانت أيضا تجيد الغناء، وتستمتع بسيطرتها العاطفية على الجميع، ما دفع بعض المتطرفين إلى تصويرها وكأنها إحدى فتيات الهوى والمتعة ودسُّوا عليها بعض النصوص التي تثار حول الفاتنات الغانيات عبر التاريخ، غير أن عديد من الباحثين وصفوها بالعفة والطهارة، وصانوها عن الإسفاف والتبذل، فقال المؤرخ الأندلسي «ابن بسام» أحد من ترجموا لها في كتابه «الذخيرة» : «كانت في نساء أهل زمانها، واحدة من أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر، كانت درة يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وسهولة حجّابها، وكثرة منتابها، يخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب، على أنها سمح الله لها، وتغمد زللها أطرحت التحصيل وأوجدت إلى القول فيها السبيل، بقلة مبالاتها، ومجاراتها بلذاتها». وكتب عنها «المقري التلمساني» في سفره «نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرطيب» قائلا: «.. وكانت واحدة زمانها المشار إليها في أوانها حسنة المحاضرة، مشكورة المذاكرة». واقترن اسمها بالعديد ممن حولها؛ فصاحبتها «مُهجة القُرطُبية»، وهي شاعرة لا تقل عنها جمالا، ولُقِّبَت ب «مهجة صاحبة ولادة»، والوزير «ابن زيدون» الشاعر الذى اُشتهر ب «ذي الوزارتين» لُقِّب أيضا ب «صاحب ولادة»، حتى أبوها «المستكفي بالله»، بالرغم من أنه الخليفة إلا أنه اشتهر ولُقِّب ب «والد ولادة». وقالت هي عن نفسها: إني وإن نظر الأنام لبهجتي كظباء مكة صيدهن حرام يحسبن من لين الكلام فواحشا ويصدهن عن الخنا الإسلام وكان الوزير العاشق «أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي » الشهير ب «ابن زيدون» يحظى بمكانة مرموقة في المجتمع، وسيماً وذكياً ومرهف القلب، وحباه الله بموهبة شعرية فذة وقدره أدبية متميزة، يحضر مجلسها، ونشأ بينهما حب جارف عبر لقاءات في مجلسها، فاشتعلت قريحته بأشعار ملتهبة، ومساجلات رائعة، كانت مفاجأة لرواد المجلس، وأضفى سجالهما الشعري بعدا جديدا على حركة الإبداع الأندلسي في نهاية العصر الأموي، وبداية عصر الطوائف، ووصل الحب الجارف بينهما حد أنها كانت تطلب اللقاء وتتعجله تحت جنح الظلام ونظمت أبياتاً من الشعر في ذلك: ترقب إذا جن الظلام زيارتي فإني رأيت الليل أكتم للسر وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح والبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر ويصف «ابن زيدون» حرصه على سرها، وصونه لها وحنانه عليها بقوله: أصونك من لحظات الظنون وأعليك من خطرات الفكر وأحذر من لحظات الرقيب وقد يستدام الهوى بالحذر وكان ل «ابن زيدون» غلام يدعى «علي» فداعبته فيه «ولادة» بقولها: ان ابن زيدون على فضله يفتأ بي ظلما ولا ذنب لي ولاحظت «ولادة» لاحظت ميل «ابن زيدون» إلى جارية سوداء لديها، فغارت منها لكنها أعلنت ثقتها بنفسها فكتبت إليه تقول: لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا لم تهو جاريتي ولم تتخير وتركت غصنا مثمرا بجماله وجنحت للغصن الذي لم يثمر واشتعل حب «ابن زيدون» لها في الوقت الذي تحطم حبها له، حيث كان يتصرف بخيلاء وتعال، وشعرت أنه اتخذها منافسة قوية ليتحول حبهما إلى مجابهة، وتبددت الفرصة بين رجل عاشق وامرأة تفيض جاذبية بأنوثتها، وبعدما كان الإخلاص والثقة المتبادلة أساس الحب بينهما، عكر صفوه عاشق آخر وقع في حبها، هو الوزير «أبو عامر ابن عبدوس»، فأنشد «ابن زيدون» يخاطبه فى ذلك: أثرت هزبر الثرى إذ ربض .. ونبهته إذا هدا فاعتمض وما زلت تبسط مسترسلا .. إليه يد البض لما انقبض حذار حذار فان الكريم إذا .. سيم خسفا أبى فامتعض عمدت لشعرى ولم تتئد .. تعارض جوهره بالعرض أضاقت أساليب هذا القريض .. أم عفا رسمه فانقرض لعمرى فوفت سهم النضال.. فأرسله لو أصبت الغرض وسعى «ابن عبدوس» لدسّ المكائد لمنافسه «ابن زيدون» صاحب الحظوة لدى «ولادة» ليقصيه عن طريقه إليها، وأقصاه بالفعل عن الوزارة عندما أوقع به عند الملك «أبي الحزم بن جهور»، أول ملوك الطوائف في حكم الأندلس، ولم يكتف «ابن عبدوس»، بل ظل يلاحق «ابن زيدون» حتى أودى إلى السجن وعانى خلاله القهر الذي رقق وجدانه وصقل نفسه وأحَس فيه بالأسى. وخلا له الجو للاستئثار بفاتنته ولادة، وتقول كتب التراث: «.. ومرت ولادة بالوزير «أبي عامر بن عبدوس»، وأمام داره بركة تتولد عن كثير الأمطار، وربما استمدت بشئ مما هنالك من الأقذار، وقد نشر أبو عامر كميَّه، ونظر فى عطفيه، وحشر أعوانه إلىّ، فقالت له: «أنت الخصيب وهذه مصر فتدفقا، فكلاكما بحر!». وعلى الجانب الآخر كان «ابن زيدون» يفكر في الهرب من السجن بعد أحداث متتالية في قرطبة ليتمكن من الهرب لاجئاً إلى أشبيلية» التي كانت تخضع لحكم الملك المعتضد بن عباد الذي أحاط ابن زيدون برعايته وقربه إليه وزاد في كرمه، وظل «ابن زيدون» على حبِّه ل «ولادة» التي صرفت الأنظار عنه، وجفَّت عواطفها نحوه، فبعث بقصيدته الشهيرة من أشبيلية إليها في قرطبة يقول فيها مناجياً متحسراً، وشاكياً معاتباً مستعطفا فى قصيدته النونية الشهيرة والتى تعتبر من غرر الشعر العربى: أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا الا وقد زال يضحكنا أنسا بقربهم قد عاد يبكينا غيظ العدا من تساقينا فانحل ما كان مفقودا بأنفسنا وانبت ما كان موصولا بأيدينا لم نعتقد بعدكم الا الوفاء لكم رأيا ولم نتقلد غيره دينا ما حقنا أن تقروا عين ذي حسد بنا ولا أن تسروا كاشحا فينا كنا نرى اليأس تسلينا عوارضه وقد نسينا فما لليأس يغرينا بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا حالت لفقدكم أيامنا فغدت سودا وكانت بكم بيضاً ليالينا إذا جانب العيش طلق من تآلفنا ومورد اللهو صاف من تصافينا ولم تلق هذه الأبيات أي قبول في قلب «ولادة» حيث أصبحت قصة حب «ابن زيدون» وغرامها به مجرد ذكرى، رغم ما خلفه هذا الحب العنيف من أثر في نفسيهما، وبقي مستعراً عند «ابن زيدون» لدرجة أنه كان يعتبر حياته فراغاً قبل علاقته بولادة وأصبحت بحبها وامتلاكه لقلبها حياة سعيدة هانئة حقق فيها أمجاده الفكرية والأدبية، والسياسية أيضاً، فقد كان يؤرخ لحياته بهذا الحب الطاغي ليلازمه سوء الحظ في مأساته وعذابه المرير وتحول أيامه إلى الكآبة من بعدها ليعيش الصراع النفسي الرهيب واقترانه ببعده عنها وإعراضها عنه. عمّرت ولادة طويلا وبلغت قرابة الثمانين عاما ولم تتزوج، وتوفيت فى شهر صفر من عام 480 هجرية وقيل عام 484.