كتابة التاريخ ليست فعلا محايدا بأي حال, وإنما هي عملية توثيق لوقائع وأحداث, يقوم المؤرخ بتأويلها, ومن ثم إعادة تركيبها ووضع المتناثر من أحداثها في بناء متجانس, مستعينا بمخيلة تاريخية مهمتها الجمع والترتيب للوقائع لا الخلق والتخييل بأحداث متوهمة أو مشكوك في صحتها. وكتاب الأزهر: الشيخ والمشيخة للمؤرخ المتميز حلمي النمنم كتاب تاريخي من النوع الذي وصفته. وكتابة تاريخ الأزهر فيه عملية تأويلية أساسها التوثيق والتدقيق, وذلك من خلال منظور بعينه. أقرب إلي السياسة منه إلي العقيدة والشريعة اللتين تفضيان إلي تفاصيل مذهبية لا تخلو من صراع اعتقادي. وآية ذلك أن كتاب حلمي النمنم يتتبع علي وجه التحديد العلاقة بين الأزهر وسلطة الدولة التي لا تزال مشيخة الأزهر في علاقة متذبذبة معها, فهي علاقة سلبية في حال ضعف الدولة وتصاغر المشيخة في الانصياع إليها. وهي علاقة إيجابية في حال قوة الدولة وارتفاع مشايخ الأزهر عن الأطماع الدنيوية. ومركز الوصل في الحالين علوم الشريعة التي تعلو بأصحابها إذا عرفوا قدرها, وتأولوها في الاتجاه الأحكم لمبادئ التوحيد والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما إذا اتخذوها بضاعة للربح وطلب القرب من سلطان جائر فإن العلم بها ينحدر كالعقول التي تضيق آفاقها, وتلتوي أقدارها كتأويلاتها المغرضة وأحكامها المؤدلجة التي تقترن بمنع الثورة علي الحاكم, وإن جار أو ظلم أو ملأ الدنيا فسادا, كي لا تكون فتنة فيما قيل مرارا. ومن المؤكد أن التركيز علي تاريخ الأزهر ومشيخته, من حيث العلاقة بينهما والسلطة السياسية, خصوصا تلك التي لا تري في الأزهر ومشايخه إلا جهازا من الأجهزة الإيديولوجية للدولة, هو الحافز الذي دفع حلمي النمنم إلي أن يتتبع علي نحو بالغ الإفادة تاريخ الأزهر ومشيخته منذ الدولة الأيوبية في عهد صلاح الدين الأيوبي إلي يومنا هذا, عابرا من الدولة الأيوبية إلي المملوكية, ومنها إلي العصر العثماني, واصلا إلي العصر الحديث والمعاصر, مبرزا حرص الملك فؤاد الذي عرف باستبداده علي تعديل الصياغة التي أعدتها لجنة الثلاثين لدستور 1923 كي يبقي الأزهر تابعا له, وهو الأمر الذي حافظ عليه عبد الناصر, وانتقل منه إلي السادات وإلي مبارك الذي أصدر قرارا بتعيين شيخ الأزهر الحالي, وهو أفضل من عرفه جيلي شيخا لهذه المؤسسة الدينية بالغة الأهمية, من حيث تأثيرها في حياة المسلمين وأدوارها المتعددة في التاريخ الوطني المعاصر. وإذا كان الشيخ أحمد الطيب حريصا علي الارتقاء بالأزهر واستقلاله عن السلطة السياسية في آن, مؤكدا أنه لا تماهي بين الأزهر والسلطة الحاكمة, وأن استقلال الأزهر هو سر قوته ومصدر تأثيره الفاعل في حياة المواطنين, فإن بعض من سبقوه كانوا ملكيين أكثر من الملك في علاقاتهم بالسلطة السياسية علي وجه التحديد. وكتاب حلمي النمنم يحكي علي نحو شائق هذا البعد السياسي الذي يصل الأزهر بالسلطة السياسية في تاريخه الطويل, غير ناس الدور الذي قام به رجال الأزهر العظام في درء الفتنة الطائفية التي أراد الاستعمار إشعالها في ثورة 1919, حين فتحت أبوابه للمواطنين من رجال الكنيسة المصرية, تأسيسا لمعني وحدة الهلال والصليب التي لا تزال ذخرا لنا إلي اليوم, وقبل ذلك دور الأزهر في مقاومة الحملة الفرنسية, وذلك وصولا إلي ظهور رواد الاستنارة من أمثال الشيخ حسن العطار وتلميذه رفاعة الطهطاوي في السياق الذي يجمع بين الشيخ محمد عبده وعلي عبد الرازق الذي تمرد علي المشيخة التي أرادت أن تبايع الملك فؤاد خليفة للمسلمين لولا سقوط الخلافة العثمانية سنة .1923 ولكني بعد أن فرغت من قراءة كتاب حلمي النمنم والإفادة مما فيه, شعرت أنه بدأ تاريخه من وقت أن دخل صلاح الدين الأيوبي القاهرة, وتولي عملية غسل عقول المصريين من المذهب الشيعي- الفاطمي, وإعادتهم إلي حظيرة مذهب أهل السنة والجماعة بمدارسه المعروفة: الحنابلة والمالكية والأحناف والشافعية. وظني أن الدور الاعتقادي الذي ظل الأزهر( السني) يؤديه ولا يزال, في علاقته بالدولة, لا يمكن فهمه تمام الفهم إلا في علاقته بالأزهر (الشيعي) الذي تم افتتاحه بإقامة صلاة الجمعة للمرة الأولي في اليوم السابع من رمضان سنة361 هجريا. وقد أشرف جوهر الصقلي علي بناء الأزهر ليكون مجمعا علميا لتدارس المعتقدات الفاطمية وإشاعتها بين المصريين الذين كان لابد من تحويلهم عن مذهب السنة والجماعة الذي كانوا عليه خلال الدولة العباسية إلي المذهب الفاطمي. وكانت نقطة البدء إطلاق اسم الأزهر علي هذا المسجد الجامع تيمنا باسم السيدة فاطمة الزهراء ابنة النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) وزوجة الإمام علي رضي الله عنه, والتي ينتسب إليها الخلفاء الفاطميون الذين تم فتح القاهرة في عهد خليفتهم الرابع المعز لدين الله الفاطمي الذي قام قائده جوهر الصقلي بفتح مصر, وتأسيس مدينة القاهرة التي أنشئ فيها الجامع الأزهر ليكون محلا للعبادة, ومعهدا لتدريس المعتقدات الفاطمية, والحق أن الأزهر الفاطمي هو الذي أسس تقاليد تواصلت في الأزهر السني, ذلك علي الرغم من إهمال الأزهر لما يقرب من قرن, كي ينسي المصريون حقبة الفاطمية, وفي سبيل ذلك حدث إخفاء أو إتلاف أو حرق للمخطوطات التي تتصل بالعقائد الفاطمية, وكانت لا يقل عددها عن آلاف لصفوة عقول المذهب الفاطمي, وللفلاسفة الذين وجدت كتبهم احتفاء بها في ساحات ومكتبات الأزهر الفاطمي. وأذكر من قراءاتي في العصر الفاطمي أن ابن قاضي القضاة النعمان بن محمد تصدي لتدريس الفقه الشيعي في إحدي الحلقات التي كانت تحيط بأعمدة الجامع, وأن الوزير يعقوب بن كلس قام بتعيين عدد غير قليل من شباب علماء المذهب, ورتب لهم أجرا شهريا, وبني لهم منازل حول المسجد, وشاعت تسميتهم بالمجاورين لهذا السبب. وبعيدا عن الجوانب الإدارية والاعتقادية, فمن المؤكد أن الذين نهضوا بأمر الأزهر الشيعي, هم الذين أسسوا تقاليد العلاقة بالدولة, وذلك منذ أن كان هذا الأزهر أقوي الأجهزة الإيديولوجية للدولة التسلطية الفاطمية التي لم تفارق خلافتها شأن أغلب أنواع الخلافة صفات الاستبداد. ولكن رغم هذا الاستبداد, يظل تاريخ الأزهر يحمل صفحات مضيئة لمشايخ عظام, آمنوا بأن العدل هو الوجه الملازم للتوحيد, سواء في علاقة الخالق بخلقه, أو علاقة السلطان برعاياه, أو علاقة المسلم بغيره. والغيرية لا تقتصر علي المسلمين وحدهم في هذا المقام, وإنما تمتد إلي غير ديانة الإسلام في الوطن, وإلي كل أبناء المعمورة الفاضلة علي امتداد الكوكب الأرضي. وأعني بهؤلاء المشايخ الذين جمعوا بين علوم النقل والعقل, ووصلوها بعلوم الحدس الصوفي أحيانا, فكانوا مشاعل استنارة تزهو بأسماء مشاعلية لم يكفوا عن الإضافة إلي تيارات الحضارة الإسلامية في أزهي عصورها. لافارق في ذلك بين قرنين من الأزهر الفاطمي وقرون من أزهر السنة السمحة المستنيرة. المزيد من مقالات جابر عصفور