أيا كان رأينا فى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وسواء كنا مؤيدين أو رافضين له، فمما لاشك فيه أنه يحمل المصريين جميعا، خصوصا من يوصفون بأنهم أصحاب الدخول المحدودة، تضحيات هائلة، تتفاوت طبعا بحسب مستويات الدخل، وإنه فى كل الأحوال لن يكون كافيا لخروج الاقتصاد المصرى من أزمته العميقة الراهنة. من الخطأ الترويج لمقولة أنه لن يمس محدودى الدخل ، وهم الغالبية الساحقة من المصريين، والتى لا تقتصر على 26.3 أو ما يقرب من اثنين وعشرين مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر، هم وغيرهم من محدودى الدخل الآخرين سوف يواجهون حتما ارتفاع الأسعار بسبب التعويم الجزئى أو الكلى للجنيه، وضريبة القيمة المضافة، وارتفاع أسعار بعض الخدمات التى تقدمها الحكومة مثل المياه والكهرباء وتخفيض الدعم عن بعض السلع الأساسية كالقمح والسكر والزيت والبنزين. من الصعب تقدير مستوى الارتفاع فى الأسعار المتوقع بعد بدء تنفيذ الاتفاق، ولكنه لن يقل بحسب تقديرات شائعة عن 20% من مستواها الحالي. ليس هناك حل سحرى لتخفيف هذه المعاناة، فالحكومة بسبب عجز ميزانيتها، لا تقدر على توفير حماية اجتماعية فعالة للفقراء ومحدودى الدخل، وما ستحصل عليه الحكومة من قرض الصندوق، الذى تأمل أن يكون فى حدود 12 بليون دولار موزعة على ثلاث سنوات، سوف يستخدم فى علاج عجز الموازنة الحالية، وليس لتوفير حماية اجتماعية اضافية. وترفض الحكومة فيما يبدو تحميل أصحاب الدخول العالية جانبا أكبر من التكلفة الاجتماعية للاتفاق، لأنها ترفض رفع مستويات الضريبة على أساس تصاعدى، أو فرض ضريبة جديدة على أصحاب الأرباح الرأسمالية الناتجة عن المتاجرة بالأوراق المالية. ولكن هل يمكن أن تكون هذه التضحيات الثمن الضرورى لخروج مصر من الأزمة العميقة التى يواجهها اقتصادها من نقص ايرادات الحكومة عما تتحمله من نفقات ، ومن قصور صادراتنا عما نحتاجه من واردات؟. التفكير السائد فى دوائر الحكومة بحسب ما يستشفه كاتب هذه السطور ، هو التعويل على أن قوى السوق سوف تستجيب للأوضاع الجديدة التى يخلقها الاتفاق، من توافر نسبى للعملات الأجنبية ، وفى مقدمتها الدولار، ومن تحسن فى ميزانية الحكومة، ومن ثم تختفى بعض الصعوبات التى حالت دون استيراد بعض مستلزمات الانتاج، وهكذاسوف تدور عجلة الانتاج فى المصانع المتوقفة، وتتدفق الاستثمارات الأجنبية،وتقل مزاحمة الحكومة لأصحاب المشروعات الخاصة وهم يسعون للحصول على تمويل مصرفى لأنشطتهم. والواقع أن هذا التعويل على قوى السوق هو أمل خادع مالم تتغير استراتيجية التنمية الحالية فى مصر، التى تهدر جانبا كبيرا من مواردها المحدودة فى مشروعات لا تضيف الى طاقاتها الانتاجية، وتتولى الدولة القيام بدورها على النحو الذى عرفته دول نجحت فى ظل ظروف أسوا مما عرفته مصر فى الانتقال الى مصاف الدول الصناعية الجديدة ، وبدون اتفاق لا مع صندوق النقد ولا شقيقه البنك الدولي. ليس هناك منظرين لاستراتيجية التنمية فى مصر، وقد يعترض البعض على مجرد الحديث عن استراتيجية للتنمية فى مصر لايرونها، ومع ذلك يمكن القول ان التدقيق فيما تحاول الحكومة فعله وتعطى له الأولوية باعتباره برنامج الرئيس ، والذى يكرر رئيس الوزراء دائما أن مهمته الأولى هى تنفيذه، يكشف أن توزيع الاستثمارات على عدد كبير من المشروعات التى توصف بأنها قومية مثل اقامة عاصمة جديدة، وتوسيع قناة السويس، ومد شبكة الطرق، واستصلاح مليون ونصف مليون فدان، ومشروعات الاسكان الاجتماعي، وغيرها، كل هذا يندرج تحت مسمى استراتيجية تنمية متوازنة. ويرى أنصار هذه الاستراتيجية فى أدبيات التنمية الاقتصادية، أن ميزة هذه الاستراتيجية أنها تنشط قطاعات عديدة فى الاقتصاد سوف تؤدى بعد فترة الى نقلة نوعية فى هذا الاقتصاد بحكم الآثار النافعة الناتجة عن ضخ الاستثمارات فى كل هذه القطاعات. ولكن يؤخذ على مثل هذه الاستراتيجية أنها قد تكون ناجحة لو كان حجم الاستثمارات المتاح كبيرا بحيث يكفى لتغيير كيفى فى كل هذه القطاعات، فيولد فرص عمالة كبيرة، ويرفع من الانفاق الاستهلاكى مما يولد طلبا يدفع لاقامة مشروعات جديدة تضيف بدورها مزيدا من فرص العمل والدخول وفائضا للاستثمار. ولكن المشكلة تحديدا فى مصر هى ضآلة المتاح من الاستثمار فى ظل عجز الموازنة، وعزوف القطاع الخاص بسبب ما يعانيه من مشاكل وعدم وضوح رؤية الحكومة الاقتصادية وقلة تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، ومن ثم فلن تكفى الاستثمارات الموجهة لهذه القطاعات فى تحقيق هذه النقلة النوعية. كما أن هذه الاستثمارات فى أغلبيتها الساحقة موجهة لأنشطة خدمية، ومن ثم فهى لا ترفع الطاقة الانتاجية لمصر، ولا تؤدى الى زيادة معدل النمو فى قطاعات الصناعة التحويلية والزراعة على النحو الذى يحقق نقلة كيفية فى الاقتصاد، كما أنها كلها أنشطة تستهدف السوق المحلي، ولا تسهم فى زيادة الصادرات، بل على العكس سوف تؤدى الى زيادة الواردات مما يضاغف من أزمة ميزان المدفوعات. وحتى مشروع استصلاح مليون ونصف مليون فدان الذى لا نعرف الكثير عن مدى توافر المياه الكافية لزراعتها ليس من المضمون انجازه فى فترة قصيرة من الزمن،لأن العائد على استصلاح الأراضى لا يظهر الا بعد سنوات، وليس ذلك مما يجذب القطاع الخاص للاستثمار. وتجربة السنوات الأخيرة تكشف أن القطاع الخاص المصرى يهتم بالأراضى الصحراوية ليس بهدف استصلاحها للزراعة، ولكن بهدف تحويلها لمجتمعات عمرانية لا يقدر على شراء وحدات فيها سوى الموسرين من المصريين، ولا تفيد فى حل مشكلة الاسكان فى البلاد. وليس من المتصور أن تنجح تنمية بديلة فى مصر توجه ما يتوافر لها من موارد نحو زيادة الطاقة الانتاجية للاقتصاد، وتنويعه وتوسيع قدراته التصديرية وبالتركيز على القطاعات الانتاجية قطاعا بعد آخر الا اذا انتهجت الدولة فى مصر النموذج نفسه الذى نقل دول شرق آسيا مثل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة الى مرتبة الدول الصناعية الجديدة. وهو المعروف بنموذج الدولة الانمائية. وعلى عكس ما يروج له بعض الكتاب الذين اكتشفوا هذا المفهوم حديثا ، فان شروط الدولة الانمائية لا تتوافر فى مصر فى الوقت الحاضر.صنع القرار فى الدولة الانمائية هو المسئولية الأولى لأجهزة التخطيط الاقتصادى وليس لأى جهاز آخر فى الدولة. وهذه الأجهزة تعمل مسترشدة بالاعتبارات الاقتصادية وحدها خدمة لمشروع قومى هو تحقيق النقلة النوعية للاقتصاد من خلال التصنيع وأنشطة الخدمات ذات القيمة المضافة العالية، ويقود هذه الأجهزة خبراء على أعلى مستوى من الكفاءة. هذه الدولة الانمائية قادرة على تعبئة الموارد المحلية، ومن ثم لايقل معدل الاستثمار فى دول شرق آسيا عن ثلث الناتج المحلى الاجمالى بينما لايكاد يتجاوز فى مصر 17% من هذا الناتج، كما أن جهاز الدولة الانمائية يملك الخبرات والقدرات ومستوى التأهيل العالى للعاملين فيه وفوق ذلك استعداد قياداته فى مجالاتها المتنوعة على العمل معا وبتناسق. وأخيرا، فهذا الجهاز هو الذى يحدد أولويات الاستثمار الأجنبي، ولايترك هذه الأولويات لكى يرسمها المستثمرون الأجانب وفق مصالحهم. هل نملك استراتيجية بديلة للتنمية؟ وهل تتوافر لدينا شروط الدولة الانمائية؟ بدون تحقق اجابة ايجابية على هذين السؤالين على أرض الواقع سنجد أنفسنا بعد انتهاء السنوات الثلاث لقرض صندوق النقد الدولى نسعى لقرض آخر، وليس من المؤكد أن الصندوق سيستجيب لمطالبنا حينئذ. لمزيد من مقالات د.مصطفى كامل السيد