ماذا بعد ؟ لا أعلم بنيتى لمَ أكتب إليكِ الآن ؟ ولمَ أخط تلك الكلمات وفى الإمكان محادثتك عبر أية شاشة من منجزات العصر التقنى ؟ ربما تخذلنى الكلمات فلا تخرج عن طور “خلجاتٍ” أزهق بها ما اعتمل بصدري.. ربما أخشى صداهُ عليكِ، أن يروعكِ افتراض فقدكِ لى بين الفينة والأخري، وبيننا فواصل جغرافية، وزمنية تحجب ضمك لى وربتك لهواجسى كى تخمد. أنا الأم المتجهمة الصلبة تسرد إليكِ تضاريس فزاعتها الجديدة، التى مرقت فى أحلامها المتسربة ما بين عشية العام السادس والأربعين، وبين صبيحة عامك الثلاثين.. لم أزل أراكِ طفلتى الجميلة ذات السبعة أعوام، بأسنانٍ أماميةٍ مفقودة، وبجديلةٍ قصيرة تتأرجح بين أحد كتفيكِ، تجرش حبات العنب الأخضر وتتلذذ بلذعته، وتضحك ملء روحها الرشيقة على تعبير امتعاضى من غرابة ذائقتها، واقشعرار بدنى من لذوعة تتسرب إلى حلقى وهى التى تمضغ (حُصرم) الحبات المنتقاة من العنقود . أنا لا أرى تلك المختالة بقامتها، والمفتتن بها شباب الحى كافة.. أنوثتك معطلة لديَّ، وانعكاس صورتك فى روحى لا يتعدى فتاة ضئيلة الحجم تمسك بتلابيب ردائى وتبكي، وتقضم من شطيرة أعددتها صباحاً بمربى المشمش التى تهواها، ثم تقضم ثانية وتشكو فتية أشرارًا اجتثوا من بين أصابعها الصغيرة ورقة من فئة “الخمسين قرشاً”، وتطلب منى إذناً شفهياً بالاقتصاص منهم، وأنا التى أمرتها بعدم التنمر بهم.. عليَّ الاعتراف بأنى أخطأت حيال ذلك الأمر. عليَّ الاعتراف بعدة أمور، لن تعيننى شجاعتى المنفلتة منى الآن أن أجابهك بها سوى على الورق هنا . سامحيني.. نعم سامحينى إن لم أكن تلك الأم التى رغبتِ أن تشُبى فى كنفها.. كنت طفلةً وأنجبت طفلةً، سامحينى لأنى يوماً ما لم أتخلَ عن صلابتى معكِ، وأصررت على تفادى استعطافك الذى أطل عليَّ مستجدياً عدة مرات، حين أخفقتِ فى تحصيل الدرجات، وحين تلفظتِ بكلماتٍ مكروهة، وحين سرقتِ من أخيكِ حلواه، وحين عاركتِ الفتيات و...و... و... ولأننى أشحتُ بوجهى إصراراً على عقابك، ولم أمنحكِ عناقاً طويلاً، ولأنى أصبتك بعصا وكنت أرغب كثيراً أن تخطئ الهدف بعيداً عن مرماكِ. اغفرى لى الأوقات التى استقطعتها من أجل أشياءٍ أخرى لست فى نطاقها، اغفرى رضوخى لفراقك، بزعم أشياءٍ عدة لم أستسغها لكننى مررتها فى جوفى بقنينة أسبابٍ لاذعة. اغفرى ملامتى لأخطائك “صغيرةً”، ونزقك “كبيرةً”، اغفرى تعنيفى لكِ على قضم الليمون، وامتعاضى من صوت طقطقة عظامك، وأصابعك النحيلة، اغفرى لى كل موسم للفراولة لم أقتنِ لك فيه سلةً كبيرة ترفلين بها كما تمنيتِ، تأكلين منها وتقذفين التالف على أقرانك، اغفرى تدليلى المفرط لطفليكِ. اغفرى إطالتى عليكِ فى رسالتي، واعلمى أنى رغبتُ أكثر منكِ فى احتضانك وضمك لي، وكنت أود أن أمنحك أكثر من محبتي، ووقتي، وطاقتي، وقبلاتي، وأنى لم أقوَ على استخدام الجهامة والصلابة والتعنيف مع أبنائك، لأنى رغبت فى التعويض عنك بصورة أخري، ربما أخطأت فى إيصال الرسالة، ربما تصدعت مزاعمى حين وجدتك صورة مني، وعارضت تكرار أخطائي، لكنى بالتأكيد “أحبكِ”، وأنتِ تدركين ذلك الآن، وأتلمسه فى عناقك لهم، وفى شطيرة الصباح، وكوب الحليب، وحبات الفراولة التى تزيلين أقماعها، وتعاودين غسلها مراراً، وتمنحينها لهم بقدرٍ متساوٍ مع حبات الفاكهة الأخرى . يا حبة الفراولة اليانعة الأولى فى حديقتي، وزهرة الليلك فى باحة روحي، وعنقود صباى الأخضر.. أختصر شوقي، وأسفي، ودموعى فى رسالتي. أما بعد بنيتي.. “أحبك”.