كنت، ولا أزال مشغولا، ببلاغة المقموعين فى تجلياتها القديمة والحديثة، وذلك لأننا نعيش منذ عقود، إن لم تكن قرونا، فى عالم من القمع متعدد الأنواع: فهناك القمع السياسى المرتبط بالاستبداد، وهناك القمع الدينى الذى تحول إلى إرهاب تدميرى، وهناك القمع الاجتماعى الذى نعيشه صباح مساء. والرواية التى أتناولها اليوم هى رواية «السمسار» التى كتبها محمد كمال حمودة، وأصدرتها دار الثقافة الجديدة. وهى من الروايات التى تنتسب إلى القمع السياسى، وليس موضوعها المقموعين من المعذبين فى الأرض، وإنما القامعون الذين تمتد براثنهم لتنهش لحم وأرزاق الذين أوقعهم الحظ العاثر ليعيشوا تحت إمرتهم أو تحت مظلة حكمهم. وليس «السمسار» فى هذه الرواية حاكما أو باطشا أو عسكريا ارتقى إلى سدة الحكم، وإنما هو انتهازى ذكى تخرج فى كلية التجارة، منتسبا إلى أسرة متوسطة لا يمكن أن نصفها بأنها تنتمى إلى البرجوازية الصغيرة، كما يقابلنا فى روايات نجيب محفوظ، لكن البطل «منتصر فهمى» فيه ملامح من كل الانتهازيين الذين نراهم فى روايات نجيب محفوظ، أمثال محجوب عبد الدايم وسرحان البحيرى، ولكنه ليس مثلهما لأن أسرته ليست من البرجوازية الصغيرة بالمعنى الدقيق، وإنما هى من الشرائح المستورة فى هذه الطبقة، فهى أسرة يعود مؤسسها إلى جذور بلغ ثراؤها حدا كبيرا، ولكن تتابع الأخطاء انتهى بها إلى ما هو دون الغنى بالقطع، وخلق فى أبنائها دافعا نحو الصعود الطبقى، والوسيلة هى التعليم الذى هو المركبة الوحيدة التى تنقل أبناء الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى إلى الطبقات العليا. هكذا نقابل «منتصر فهمى» بوصفه شخصية متوثبة بالحيوية منذ البداية، يعشق السلطة إلى أبعد حد، ويبذل كل ما يستطيع من جهد فى عمله الأولىّ إلى أن يصبح سكرتير عام صندوق صادرات المنسوجات، وهى وظيفة تليق بمجتهد مثله متطلع عاشق للسلطة والثروة، لا يكف عن الحلم بهما، عاملا من أجل الوصول إلى أعلى درجة من القوة والنفوذ والثروة. ولذلك تلتقطه المخابرات المصرية ويعمل فى كنفها بعد أن وجدت فيه شخصية صالحة للتجنيد، فيعمل تحت لوائها. فقد كان كما وصفه صديقه «درويش» «شخصية جريئة»... يتحرك بسهولة رأسيا وأفقيا... يستوعب المشاهد والأرقام والمعلومات بسرعة عجيبة... حركته مستمرة وعقله شغال طول الوقت«. وتكون هذه الصفات هى مدخله الأول إلى المخابرات التى وجدت فيه عنصرا صالحا للتجنيد، وأن يكون أحد رجالها. وينتقل بسرعة الصاروخ لكى يحقق أحلامه واحدة واحدة إلى أن يصبح عنصرا فاعلا فى بناء القطاع الاقتصادى التابع للمخابرات. ومن خلال هذا القطاع يتنقل ما بين المغرب والعراق وأوربا، مكونا شبكة عنقودية من العلاقات والمصالح التى تجعل من روايته رواية مفرد بصيغة الجمع، أو رواية جمع بصيغة المفرد؛ فالسمسار ليست حكاية منتصر فهمى عبد السلام، وإنما هى حكاية النظام الاجتماعى السياسى الذى لا يزال ينتج أمثال منتصر فهمى عبد السلام، ما ظل الفساد كالقمع بكل تجلياته باقيا، يتخلل حتى الهواء الذى نتنفسه، والذى يسمح بتوالد أمثاله فى عالم ظل ينتج الوزير المرتشى والرئيس المرتشى إلى عهد قريب، نرجو أن يكون قد ذهب بلا رجعة، هو وآليات توالد الفساد والقمع. هكذا يمكن أن نقرأ رواية «السمسار» بوصفها مجازا مرسلا، لا يومئ إلى فرد بعينه، وإنما إلى نظام كامل ينتج أمثال منتصر فهمى عبد السلام والرئيس الذى شاركه عمليات السمسرة أو نهب ثروات المعذبين فى الأرض، المحكوم عليهم بكل من يمارس دور السمسار على أعلى مستوى كى يحقق الحلم نفسه: أن يكون قريبا من السلطة التى تشعره بالقوة، ومالكا للثروة التى تكمل هذه القوة وتنميها، وواعيا طول الوقت أن الطريق الذى يمضى فيه لا مجال فيه للعواطف ولا الأخلاق، وإنما الرغبة الوحشية فى جمع أكبر قدر من المال الذى يوصله إلى أحلام الثراء التى تنقله من أصحاب الملايين إلى أصحاب المليارات، ويكون عنده بالفعل القصور المتناثرة فى أوربا واليخت والطائرة الخاصة والشركات التى تعد وتحصى، ويكون ذلك مدخله إلى التحالف مع رجال السلطة العليا، يأخذ من سلطتهم ما يحميه، ويقدم لهم من الثروات الطائلة نظير هذه الحماية ما يؤكد أن منطق الاستغلال الاقتصادى لا يمكن أن يمضى إلى النهاية إلا تحت جناح الفساد السياسى الذى يكون شريكا وحاميا لوجود الشبيه والقرين: «السمسار». هكذا تمضى بنا رحلة الثروة والسلطة بكل تحالفاتها؛ ابتداء من عهد عبد الناصر إلى عهد السادات الذى يرتقى فيه نموذج «السمسار» ويحقق بعض أحلامه إلى عهد مبارك الذى أصبح فيه رجلا من رجال النخبة الحاكمة الذين انتهى بهم الأمر إلى أن أصبحوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم «أصحاب البلد» فى عهد مبارك، بعد أن وصل بهم النفوذ إلى أن أصبح «السمسار» المركز المتعين الذى تدور حوله الرواية واحدا من أغنى الأغنياء الذين يمتلكون المليارات التى تحقق لهم أحلام ما فوق القوة والثروة، وهى صداقة رئيس أسبق والتحالف معه فى تحقيق المطامح واقتسام الغنائم. وفى هذه الرحلة الانتهازية التى تمر عبر ثلاثة عهود (عبد الناصر والسادات ومبارك) لا يتردد «منتصر فهمى عبد السلام» فى الإطاحة بكل من يراه معرقلا له فى طريق الصعود. وما أسرع ما كان يتخلى عن من قدموا له معروفا أو مساعدة، فكل ما كان يعنيه هو المزيد من الثروة والسلطة اللتين جعلتاه لا يتردد فى الإطاحة بأقرب الناس إليه لكى يستزيد من الثروة والسلطة، أو على الأقل يضمن صعوده فى طريقهما الذى لا نهاية له أو حد، فهو لا يكتفى بصفقات السلاح المهولة التى أسهم فيها أيام السادات، ومن أجل خدمة الأهداف الاستعمارية فى المنطقة، بل يصل به الأمر إلى أن يحقق أكبر صفقة له فى عصر مبارك الذى رفع الانتهازيين والسماسرة- ومنهم منتصر فهمى عبد السلام- إلى أعلى عليين. ويتحقق له القرب الشديد من الرئيس الأسبق، ويضحى من أجله بمن صار بمنزلة أخيه الذى يبيعه إلى الرئيس الذى لا يكتفى فى عهده بما حققه من أحلام القوة والثروة والسلطة، فجشعه يدفعه إلى إغواء الرئيس بصفقة الغاز مع إسرائيل، ومن الغريب أن صديقته الإسرائيلية (التى كانت حبيبته قديما فى مصر الجديدة) تحذره من السياسة التى يشارك فى صنعها مع الرئيس. وتحاول أن تلفته إلى ملايين الفقراء الذين يعيشون فى العشوائيات، وإلى أنهم بمثابة قنابل قابلة للانفجار فى أية لحظة. ولكنه لا يأخذ كلامها مأخذا جادا ولا يقبل ما اقترحته عليه من ضرورة أن تكون الرعاية الاجتماعية إحدى فضائل شركاته ومؤسساته، فيمضى به مصيره إلى النهاية. وتقع الواقعة وتقوم ثورة 25 يناير، وكما باع كل أصدقائه من قبل، فى سبيل أن يرتفع وينجو بنفسه، يترك الرئيس الأسبق كى ينجو بنفسه، فارا باليخت الذى أصبح ملكا له ليذهب إلى إسبانيا، ناجيا بعائلته وثروته، متخليا عن الرئيس الذى كان يعتبره صديقه الحميم. وتنتهى الرواية واليخت يمضى به عبر البحر إلى الشاطئ الآخر، حيث سبقته الأسرة التى كانت فى انتظاره، رافعة له أصابعها معبرة على علامة النصر بالوصول الآمن بالثروة، والنجاة من الثورة التى أسقطت النظام القديم الذى سمح له بأن يكون واحدا من أعمدته، شريكا وليس سمسارا فحسب، خصوصا فى كل ما نهبه هذا النظام من ثروات الشعب المصرى. هكذا تنتهى رواية «السمسار» التى هى ملحمة من ملاحم الفساد والقمع فى حياتنا، مصورة - روائيا- مظاهر الاستغلال الاقتصادى التى لا تنفصل عن الفساد السياسى عبر عصرين من الحكم المطلق وغياب الديموقراطية فى آن. ومن الطبيعى أن تكون كل الأسماء فى هذه الرواية أسماء رمزية، والأحداث خيالية، لكن مشاكل الواقع- وليس مطابقته- تدفع القارئ المهتم بالأوضاع السياسية لبلده خلال نصف القرن الأخير أن يقارن بين الموازاة الرمزية والواقع الذى تشير إليه، فيكتشف الرمز والمرموز إليه. وحتى إن لم يستطع، فليس ذلك بالأمر الذى يقلل من استمتاعه بالرواية التى هى تصوير رمزى للواقع فى مصر، ومجاز مرسل يومئ إلى عوالم الثروة والسلطة والقوة للنخبة الحاكمة التى اندمج فيها «السمسار»، وأصبح واحدا من أقوى رجالها، إن لم يكن الأقوى على الإطلاق، فى عهد مبارك الأخير. وأعترف أنى ما إن قرأت الصفحات الأولى من هذه الرواية حتى جذبتنى إليها، ووجدت نفسى أسيرا فى عالمها الذى دخل بى إلى مصادر القوة والثروة فى اقترانهما بمنابع الفساد ورموزه على امتداد نصف قرن، وذلك إلى الحد الذى جعلنى لا أفارق هذه الرواية منذ أن بدأت فى قراءتها فى مطلع الليل إلى أن فرغت منها فى الصباح. وليس الأمر فى هذه الرواية أمر تشويق فحسب، فهناك المتعة الخيالية التى يجنيها القارئ، عندما تحمله الرواية على جناحيها لتطوف به فى عوالم لم يكن للرواية المصرية و(العربية) بها عهد من قبل. ولا أظن أن هذه الرواية كان يمكن أن تنشر طوال زمن مبارك، ومن المؤكد أن ثورتى الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو هما اللتان شجعتا على وجود مثل هذه الرواية أولا ونشرها ثانيا، فمن ذا الذى كان يجرؤ على الكتابة عن عوالم الفساد والقمع والسلطة بكل مساوئها فى عصر مبارك لولا وجود المناخ السياسى الذى يسمح بذلك؟ (وللتحليل بقية). لمزيد من مقالات جابر عصفور