عبر السنوات الخمس الماضية حين نتتبع الواقع المصرى، نكتشف أن حواراً قد يبدأ منطلقاً من نقاش على عربة الفول بين من يرى أن (الفول بالزيت الحار)، هو الأكثر حفاظاً على الصحة العامة، ومن يتمسك بأن (الفول بالزيت الحلو) هو الأساس فى يوم أكثر نشاطاً ومزاج أشد اتساقاً، كلاهما صاحب وجهة نظر، لكن نقاشهما سرعان ما يتسم بالصوت العالى والذى لا يفتأ يستحضر من موروث الألفاظ ما يصل لحد السب والقذف، وربما يخرج من حيز طبق الفول وزَيِتُه إلى طبق الوطنية التى أنبتت كلاً من المختلفين، وحقيقة موقف كليهما من الدولة الحالية والنظام، والعلاقات الخفية للمنحاز (للفول بالزيت الحار) مع تنظيمات الدين السياسى والإرهاب، والانحيازات الباطنية للمتبنى (الفول بالزيت الحلو) تجاه العولمة الأمريكية وتأييده للمرشح (ترامب) عدو العرب والمسلمين والعياذ بالله، وعادة ما سينتهى النقاش بخسارة الطرفين لوجبتهما وضياع وجبة (الاصطباحة) على العديد من مرتادى العربة التى ربما ما يطولها التخريب وضياع الأطباق والمعالق، ولا ينجلى غبار المعركة إلا بتدخل الحكماء الذين يطالبون جميع الأطراف ب (ضبط النفس)! وبرصد هادىء للواقع منذ 25 يناير 2011، يمكن الوقوف على واقع يؤكد أن الشعب الذى توحد حول شعار (عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية)، والذى استطاع أن يفرض سلامة (لجان شعبية) فى مواجهة الفوضى التى كانت مستهدفة، والذى اكتشف فجأة زيف شعار (البلد بلدهم) الذى طغى فى الثلث الأخير من حكم مبارك، هو ذاته الذى صار فى مرمى الاستهداف من قبل مشروع (الشرق الأوسط الجديد)، بعدما ثبت أنه صمام الأمان فى الحفاظ على ثبات الدولة المصرية القديمة. نيران الاستهداف لهذا الشعب كان عليها أن تفتت لحمته، وأن تقسم أوصاله، وأن ترقص على نغمات تفرقه، انخلع حسنى مبارك بإرادة شعبية امتطى صهوتها أصحاب المشاريع وفى مقدمتهم (تنظيم الإخوان)، ومن ثم كان لا بد أن تنخلع معه أواصر التوحد الشعبى التى تحفظ ثبات الوطن، حتى يتمكن كل صاحب مشروع أو (أجندة) من الحضور فى مشهد الإدارة باعتباره ممثلاً للإرادة الجمعية التى ثارت فأسقطت حكماً لا وطناً. استهدف التفتيت الشعب أول ما استهدفه حين قسمه إلى (ثوار - فلول - حزب كنبة)، ثم راح على كل فصيل ليقسمه فاستحال من ثار (إسلاميين -أحزاب- شباب ثورة)، وصار الفلول (رجال أعمال - حزب وطنى - أمن دولة)، وأمسى حزب الكنبة (كبار السن - سيدات - منتفعين). ولم تمض هذه المرحلة دون أن يدخل التنظيم الإخوانى الذى ظن أنه ملك البلاد والعباد، ولكى يستتب الأمر لهم كان عليهم أن يقسموا المجتمع إلى (أصحاب مشروع إسلامى) فى مواجهة (أصحاب مشاريع أخرى: علمانية أو يسارية أو ثورية أو عملاء). وحين دعا داعى الشعب إلى ثورة جديدة فى مواجهة التنظيم الذى حكم، كان على الإخوان أن يرفعوا سقف شعارات الفرز، والذى ظل يرتفع حتى بات بين معسكرين (الإسلام) و (الكفر)، هكذا تؤكد - إلى يومنا هذا - كل خطابات التنظيم العلنية والسرية. هذا الخطر تنبهت له خريطة الطريق المصرية حين أعلنها وزير الدفاع فى 3يوليو 2013، وترجمت هذا التنبه فى بنود تعلقت ب (المصالحة الوطنية - دمج الشباب - ميثاق شرف إعلامى وطنى للمرحلة)، غير إن إيقاع الواقع الضاغط حال حتى يومنا هذا من ترجمات حقيقية لهذا التنبه، وهو ما أفرز إيقاعاً سريعاً لمعاول التفتيت والتفريق والتشتيت. صار كل خلاف فى الرأى مجرد منصة قفز إلى فضاءات الاتهامات من صنوف شتى، فمن يعترض على معلق رياضى يتحول إلى (إخوانى)، ومن يعارض إدارة مدير مسرح هو بالتأكيد (قابض من قطر)، ومن يقدم تناولاً مختلفاً فى فيلم هو (طابور خامس)، والذى يخرج عن نص الخطبة المكتوبة تجويداً لا تحريفاً هو مخالف لولى الأمر كاره للوطن وقيادته، وإذا ما اعترض صبى على مصروفه اليومى هو هاوٍ للمعارضة بحكم الجيل ابن ال ... الذى لا يحترم ولا يُقدر. والنماذج كثيرة والتوصيفات تتجاوز حدود الاتهام إلى استخدام أدنى المصلحات أدباً وأكثرها سوقية وفظاظة. وحتى نعترف ساهم فى إثراء هذا الحالة الجميع، إدارة حتى الأسرية، وقيادة شملت الدينية، ونخباً سياسية وإبداعية، وبالتأكيد جذر لها فى الوعى وسائل التواصل الاجتماعية، وفى ظل غياب رؤية استراتيجية تعى خطورة هذا الواقع، سقط الجميع فى بئر سحيق من اللا مبالاة بفداحة المقدمات وكارثية النتائج. وبالتالى لا تقف مسئولية العلاج عند حدود أهل المسئولية النظامية، وإن كانت لا تعفيهم من فرض المبادرة السريعة المستهدفة إعادة التوحد حول راية الوطن، حيث إن واجب اللحظة الوطنية يحتم على أصحاب الضمائر التنبه، فالوطن المصرى القديم بحاجة إلى استنهاض أحد أهم مقومات ثباته ألا وهو الشعب القادر على الاختلاف دونما أن يطول خلافه مقومات استمراره على الوطن الواحد. إن هكذا تنبه تعوزه ترجمة عملية يتبناها الجميع، وتَلْزَمُة رؤية رسالية تحققها أدوات الخطاب الموجه على جميع المستويات الرسمية وغيرها (سياسياً ودينياً وإعلامياً وإجتماعياً وفنياً ورياضياً)، ويحتم امتلاك الدولة لرؤى التحصين الجمعى من أمراض الاختلاف التى تتربص جراثيمها بنا منتظرة ثغرات تنفد منها للبدن المصري، وبالتأكيد لنا أن نتصور فداحة الاختلاف على طبق الفول إذا ما خرج عن حدود الزيت (الحار) إلى (زيت الذرة) أو (السمن البلدى) وماذا إذا دخل على الخط المنتصرون للفول الإسكندرانى؟. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى