بغض النظر عن حقيقة الانقلاب العسكرى الفاشل فى تركيا، وبغض النظر عمن قام به، ومن شجعه ووظفه واستخدمه، ومن سهل تمريره لتوظيفه، بغض النظر عن كل ذلك الجدل الذى لن ينتهى حتى يتم توثيق هذه الحقبة بعد عقود ... فإن هذا الانقلاب الفاشل كان لحظة تاريخية كاشفة عن حقائق مفزعة، كانت تقبع فى زوايا الظن والشك والتخيل، فإذا بها تخرج إلى عالم اليقين أفعالاً وأقوالاً، ما جاء بعد الانقلاب يحتاج إلى تأمل وتحليل عميق؛ لأنه يكشف من الحقائق ما يقض المضاجع، ويثير الرعب فى قلوب البسطاء الذين يؤمنون بالدين، ويتمسكون بالوطن. أولا: تعامل النظام التركى - الذى يقوده قارئ القرآن والمؤذن رجب طيب أردوغان الذى يقدم نفسه على أنه يمثل قيم الإسلام ومبادئه - مع الانقلابيين الذين ينتمون لوطنه ودينه على أنهم كفار من ناحية، وأنهم أحط من البهائم من ناحية أخري، لا لأنهم خرجوا على الدين، وكفروا به كفراً بواحاً، وإنما لأنهم خرجوا عليه، ورفضوا حكمه، وأرادوا تغييره بالقوة المسلحة، فأمر السيد أردوغان بعدم الصلاة عليهم، وعدم دفنهم فى مقابر المسلمين، بل ودفنهم بجوار مزابل الحيوانات النافقة...هذا التوظيف للدين، وتكفير المخالفين وجد حماساً وتشجيعا من قيادات تنتمى للتيارات الإسلامية المساندة له . ثانياً: هذا القرار من الرئيس أردوغان بالتعامل مع الانقلابيين ككفار وحيوانات يجعل من سلوكيات داعش أمراً طبيعياً، لا يوجد فيها أية غرابة، لأن الفكرة واحدة، والمسلمات واحدة، والعقيدة واحدة، وهى أن كل من خالفنا الرأي، ولم يؤمن بما نؤمن به، ولم يرض بحكمنا فهو كافر، لا حرمة له؛ ويستحق معاملة أدنى من الحيوانات، بنفس منهج التلمود اليهودى الذى يرى أن غير اليهود أنصاف خنازير خلقوا لخدمة اليهود، لذلك تعامل المواطنون الأتراك الشرفاء من أنصار أردوغان مع الإنقلابيين بنفس منهج داعش؛ فرأينا الذبح على أحد جسور عاصمة الخلافة الإسلامية التاريخية. ثالثا: كان واضحاً أن من واجه الانقلاب فى تركيا هى مليشيات حزب العدالة والتنمية، لذلك كان تعاملها مع الجيش بهذه الطريقة المهينة؛ التى لم يشهد التاريخ لها مثيلا، لم يعامل شعب جيشه حتى فى أتعس حالاته بصورة تهين كرامة الإنسان والمؤسسة، فالقتل، أو الإعدام فى الميدان هى الطريقة التى تعرفها الجيوش، ولكن تعرية الجنود، ودفعهم للسير فى الشوراع عراة، ووضعهم فى أكوام من البشر وضربهم بالأحزمة والأحذية، وجرهم فى طوابير، كل ذلك سلوكيات لم تحدث حتى فى حالات الحروب. رابعاً: ما قامت به ميليشات الحزب الحاكم فى تركيا مع الضباط والجنود يؤكد أنهم لا ينتمون لهذه الدولة، أو لهذا الجيش، وإنما لديهم تصور آخر للدولة، ونموذج آخر لها، ينتظرون الفرصة لتأسيسه على أنقاض هذه الدولة القائمة، فلهم دولتهم الخاصة بهم، لذلك فلأردوغان دولته مثلما كان للإمام الخومينى دولته؛ التى أنشأها بعد إعدام غالبية قادة الجيش والبيروقراطية، كذلك كان لخيرت الشاطر دولته التى كان ينتظر الفرصة لإنشائها على أنقاض الدولة المصرية. خامساً: كل ما قام به أردوغان من تطهير، واجتثاث لكل المعارضين له من جماعة الخدمة الذين وصل عددهم إلى عشرات الآلاف يعبر عن حقيقة واحدة، وهى أن هناك خطة كانت تنتظر التنفيذ لتفكيك وإعادة تركيب الدولة التركية، بصورة تتناسب مع طموحات القيادة التركية الجديدة، وهذا يعنى أن حزب العدالة والتنمية ليس حزبا سياسيا فى دولة، وإنما هو دولة فى عالم الكمون تنتظر الخروج إلى الواقع، وأن هذا الحزب من منظور الدولة التركية هو التنظيم الموازى للدولة؛ مثل كل التنظيمات المنبثقة من جماعة الإخوان، وعادة مايستخدم الإخوان أوصافهم السيئة ليرموا بها خصومهم. سادساً: قدم أردوغان نموذجا جديدا للديمقراطية وحكم القانون، يقوم على الإجتثاث والتصفية والتطهير للخصوم، بعيداً عن حكم القانون وصناديق الاقتراع، فكان الخصم والحكم، وحاكم الناس على نواياها، وانتماءاتها الفكرية والإيديولوجية، واستخدم أقصى الوسائل؛ وهى الاجتثاث ... نفس الإسلوب الذى إستخدمه صدام حسين عندما تولى السلطة بعد أحمد حسن البكر، ونفس الاسلوب الذى استخدمه عملاء الاحتلال الأمريكى للعراق مع حزب البعث بعد سقوط بغداد 2003، ونفس الاسلوب الذى استخدمه الخومينى وحسن الترابي...الخ سابعاً: ديمقراطية الاجتثاث هى النموذج الكامن خلف العقول التى تمارس السياسة من باب الإيديولوجية، وتتعامل مع العمل السياسى بنفس قواعد علم العقيدة ومناهج اللاهوت، هنا يكون الخلاف السياسى اختلافاً إيديولوجياً، ومخالفةً عقائديةً، ويكون المخالف سياسياً، كافراً، يستحق الاجتثاث من الوجود، هذه الممارسات تقدم نموذجا جديداً يوصم الأحزاب الإسلامية بوصمة يستحيل أن تتخلص منها، لأن المنطق يقول: مهما كانت جريمة الانقلابيين فلامناص من محاكمتهم بالقانون الذى الذى ارتكبوا جريمتهم فى ظله. وأخيراً: تثور فى الأذهان أسئلة منطقية أولها: ماذا يحدث لو انتشر منهج أردوغان فى التعامل مع المخالفين والانقلابيين الفاشلين؟ ماذا لو طبق جعفر النميرى نفس الاسلوب على الدكتور حسن الترابى وأعوانه حينما فشل انقلابهم عليه؟ ماذا لو طبق جمال عبدالناصر نفس الاسلوب على الإخوان بعد فشل محاولة اغتياله؟ ماذا لو قام كل حاكم بتصنيع محاولة انقلاب فاشلة للتخلص من خصومة بالاجتثاث؟ هنا سيكون لكل حزب أو تنظيم إسلامه الخاص به وسيكون داعش هى النموذج الأكثر اتساقاً ومنطقية، ويكون لكل حزب أو تنظيم دولته الخاصة التى سوف يبنيها على أنقاض الدولة التى تولى حكمها ب 51٪ مثل أردوغان، ويكون لكل حزب أو تنظيم ديمقراطيته التى توصله للسلطة، ثم يجتث خصومه، ويطهر دولته منهم بعد تصنيع محاولة انقلاب فاشلة، ويصبح الشعار الدائم لكل الأحزاب «إسلامنا ... دولتنا ... ديمقراطيتنا». لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف