أظن أن أجيالا عديدة من المصريين، وحتى من العرب وفى العالم، يتساءلون عن سر استمرار ثورة يوليو ،رغم مرور 64 عاما على اندلاعها و مرور نحو 46 عاما على رحيل قائدها ومفجرها جمال عبد الناصر. فنحن نصطدم يوميا تقريبا، ومنذ منتصف السبعينيات، بهجوم شرس على ثورة انقلب عليها نظام الحكم وغير مسارها وترك الحبل على الغارب لأعدائها فى الداخل والخارج بوتيرة محمومة لا تهدأ، بل تستعر حدتها ،وكأن عبد الناصر مازال يحكم ،وكأن الدولة ما زالت تسير على دربه..ومن حق بعضنا أن يتساءل إذن عن السر فى استمرار الهجوم والتشويه طوال العقود الماضية بوتيرة متصاعدة، رغم تولى أكثر من رئيس دفة أمور الوطن. وقد طبق كل منهم رؤيته التى تناقضت جذريا مع مبادئ يوليو وعلى رأسها ،العدالة الاجتماعية. فلماذا إذن لم تهن عزيمة هؤلاء على تحمل مشقة الهجوم على يوليو، التى احتفلت الملايين فى مصر والوطن العربى بذكراها منذ أيام؟ التفسير المنطقى، من وجهة نظري، لهذه الظاهرة الغريبة، العدو يعرف يقينا، أن يوليو محفورة فى الوجدان وفى الضمير الجمعى بعمق، ليس له قرار، ليس فى مصر والوطن العربى فحسب، بل فى كل بقعة من العالم، يتوق شعبها إلى العيش بكرامة، وأن الجهود الرامية إلى «تكفير» الجماهير بها، على مدى عقود، قد باءت بفشل ذريع، وهو ما تجلى فى أكثر من مناسبة، كان آخرها ما شهده وشهد عليه العالم أجمع، فى ثورتى يناير ويونيو. فقد خرج الشعب، بعد أن طفح به الكيل، يطالب بأبسط حقوقه، كما أمنتها له يوليو «عيش، حرية، عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية». ومن نافلة القول أن الشعب كان »يرفل« فى نعيم الانفتاح ويشعر بسعادة تفوق الوصف، وهو يتنازل لأمريكا عن 99% من أوراق وطنه. وفى يونيو توحدت القلوب والعقول، فى ثورة لم يكتب إلا النذر القليل من سطورها بعد، تدافع عن وحدة التراب المصرى وترفض تمزيق الأرض التى احتضنتنا آلاف السنين، أو التفريط فى شبر منها، بينما وصفها البعض ب «حفنة من التراب العفن». وقد قرأت دراسات عديدة طوال إقامتى بالخارج، أدركت من خلالها، أسباب العداء الشرس لعبد الناصر ومبادئه، وهو أمر يحتاج إلى مساحات طويلة، قد أحاول أن أملأها لو أعطانى الله العمر، لكن من أكثرها أهمية فى نظرى مفهوم »القومية العربية«، حيث بسطت ثورة يوليو ،خيمة العروبة التى كنا نستظل جميعا بظلها، من المحيط إلى الخليج، لا فرق بين عقيدة دينية وأخرى أو مذهب وآخر، أو عرق أو جنس. كنا سدا منيعا، قويا بوحدته، يخشاه أعداء الداخل والخارج، فى مواجهة هدفهم، الرامى إلى تمزيق تلك الخيمة، إلى أشلاء، كلما صغُرت، كان ذلك أفضل، »بتوزيعها« على مختلف العقائد والمذاهب، عبر تغذية النعرات الدينية والمذهبية والعرقية، بحيث، يغدق علينا العدو أدوات التمزيق، من الأسلحة إلى الأفكار، ويقف متفرجا وابتسامة عريضة تقفز طربا داخل قلبه. لقد كانت الخيمة العربية، التى بسطتها يوليو هى الهدف الأساسي، كما أوجز وزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر، عندما جاهر بلا ادنى حرج بأن أكبر ضمان لبقاء إسرائيل فى المنطقة العربية، هو تفتيت المنطقة إلى دويلات عرقية وطائفية. واتفق مع وصف أستاذنا الراحل العظيم أحمد بهاء الدين لكيسنجر ،آنذاك ب »الصهيونى الحقير«. ومما يصب فى ترسيخ قناعتى تلك ما أعلنه عضو الكونجرس الأمريكى جون ماكين، بعد ثورة 30 يونيو، عندما تبين أن الرئيس عبدالفتاح السيسي، يتمتع بشعبية جارفة، لم تكن فى حسبانهم، حيث قال ماكين »لن نسمح بظهور ناصر آخر« وكأن من حقه أن يسمح أو لا يسمح للشعب المصرى بمن يتولى قيادته. ولست أشك , بأن إخراج السيسى لمصر من «بيت الطاعة الأجنبى» وتأكيده أن الإرادة المصرية لن تعلو عليها إرادة أخري، يفسر إلى حد بعيد الحملات الضارية التى تتعرض لها مصر الآن، من حرب الدولار إلى أحداث المنيا المحزنة، وستظل المؤامرة على مصر مستمرة إلى أن يدب اليأس فى نفوس ومخططات العدو، الذى أدرك أن يوليو ليست فصلا عابرا فى تاريخ المحروسة وأن تكفير الشعب بها، من رابع المستحيلات لأنها ثورة ستظل بمبادئها النبيلة، مصدر إلهام لكل متطلع إلى الحرية والكرامة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. لمزيد من مقالات فريدة الشوباشى