تمر ألمانيا حاليا بمرحلة مخاض صعبة لتحديد موقفها النهائي من الوجود العسكري لقواتها في أفغانستان. فعلي الرغم من مرور أكثر من ثماني سنوات علي قرار برلين مشاركة الجيش الألماني في قوات المساعدة الأمنية الدولية إيساف وقيام البرلمان الألماني بالتجديد المستمر لمهمة هذه القوات الألمانية التي فاق عددها أخيرا خمسة آلاف جندي فإن المعارضة الداخلية في المانيا سياسيا وشعبيا تزداد مع كل نعش يعود إلي ألمانيا حاملا جثمان أحد جنودها الذين يسقطون بأيدي قوات طالبان. فمنذ أن تابع ملايين الألمان اثناء عطلة عيد الفصح مشهد عودة جثامين جنودها الثلاثة الذين قتلتهم حركة طالبان في كمين بالقرب من مدينة قندز في شمال أفغانستان يوم الجمعة الحزينة اشتعل الجدل مجددا حول طبيعة المهمة التي تقوم بها القوات الألمانية وجدوي بقائها في أفغانستان, غير أن التطور الجديد يتمثل في اعتراف وزير الدفاع الألماني تسو جوتنبرج بأن بلاده تخوض حربا في أفغانستان ليكسر بذلك محظورا رفض كل السياسيين قبله الاقتراب منه. طوال السنوات الثماني الماضية كانت برلين تصف مهمة القوات الألمانية في أفغانستان بأنها مهمة لإعادة الاستقرار والبناء هكذا وصفتها حكومة المستشار الألماني جيرهارد شرودر الاشتراكية المتحالفة مع حزب الخضر ومن بعدها وحتي2009 حكومة الائتلاف الكبير بزعامة أنجيلا ميركل بين المحافظين والاشتراكيين. وطوال هذه الفترة قدمت ألمانيا مساعدات لأفغانستان تقدر بمليار ومائتي مليون يورو أنفق معظمها علي مهام هذه القوات الألمانية التي تمركزت في شمال أفغانستان حيث الأوضاع هادئة نسبيا وتأثير ونفوذ طالبان أقل كثيرا عنه في الجنوب. غير أنه بزيادة الضغوط الأمريكية وحلف الناتو علي المانيا للمساهمة ايضا في العمليات القتالية ضد حركة طالبان في الجنوب وعدم الاكتفاء باداء مهام الاستطلاع الجوي للحلفاء ومنذ أن اتسع نطاق العمليات العسكرية شمالا اضطرت القوات الألمانية تدريجيا للتورط في اشتباكات مع مقاتلي طالبان ولم تعد قادرة علي التفرغ لحفر الآبار والمساهمة في بناء الطرق وتقديم الدعم الفني اللازم فقد أصبحت وبشكل متزايد هدفا لمقاتلي الحركة ايضا في شمال أفغانستان. ومع ازدياد عدد الضحايا الألمان والضحايا بين المدنيين الأفغان اتسعت الهوة بين الرأي العام الألماني وموقف الحكومة في برلين. وجاءت الغارة الجوية علي مدينة قندز في سبتمبر الماضي لتشكل نقطة تحول في رفض الرأي العام الألماني لمهمة الجيش الألماني في أفغانستان ووصلت نسبة المطالبين بانسحاب القوات الألمانية إلي65%. فقد أودت الغارة التي امر بتنفيذها قائد الماني بحياة142 مدنيا أفغانيا وتسببت في تشكيل لجنة تحقيق برلمانية تستجوب تباعا قادة الجيش وأعضاء الحكومة بمن فيهم المستشارة أنجيلا ميركل. إزاء هذه الضغوط اضطرت حكومة ميركل الائتلافية الجديدة بين المحافظين والليبراليين لمصارحة الألمان بطبيعة هذه المهمة لأول مرة فلجأت الحكومة إلي وصفها أولا بأنها مهمة لنشر الاستقرار في أفغانستان قبل أن تصفها قبل شهرين بأنها صراع مسلح. والآن بعد الهجوم الأخير الذي رفع عدد ضحايا الجيش الألماني في افغانستان إلي39 قتيلا وتسبب بعد ساعات من وقوعه في مقتل ستة جنود من الجيش الأفغاني بنيران المانية صديقة وجد وزير الدفاع تسوجوتنبرج أنه لا مفر من وصف الأشياء بمسمياتها ليقول إنه يمكن وصف ما يحدث في أفغانستان بالحرب! حديث الحرب الذي بدأه تسوجوتنبرج ليس بالأمر الهين في بلد مثقل بأعباء الحروب وذنوبها مثل المانيا ويجد سكانه حتي اليوم مشكلة حقيقية في إرسال قواتهم لحفظ السلام في أي مكان بالعالم فما بالنا بالحرب. لذا فقد اشعل الوزير بتصريحه جدلا واسع النطاق وضع حكومة انجيلا ميركل أمام خيارين: إما أن تتبني هذا الموقف وأن تصارح الألمان بأن مهمة قوات بلادهم لم تعد قاصرة علي إعادة البناء وأنها الآن في الاساس متفرغة لمحاربة حركة طالبان وفي هذه الحالة ستضطر إلي تغيير التفويض الممنوح لها من البوندستاج الألماني ومواجهة معارضة سياسية وشعبية متزايدة ربما تؤثر علي مستقبل الائتلاف الحاكم ونتائجه في الانتخابات المحلية القادمة, الأهم من ذلك المخاطرة بأرواح المزيد من الجنود الألمان المرابطين في أفغانستان, أو أن تستجيب الحكومة لنداء الشارع ومظاهرات آلاف المواطنين وضغوط المعارضة والكنائس والرأي العام وأن تبدأ في وضع خطة واضحة لسحب قواتها تدريجيا وفقا لجدول زمني محدد مع قصر عمل قواتها هناك علي مهام إنسانية ولوجستية. اما ما تتبعه الحكومة الألمانية حاليا فهي سياسة إمساك العصا من المنتصف إذ تحاول إرضاء الولاياتالمتحدة وحلفائها في الناتو من جانب مثلا من خلال زيادة عدد القوات الألمانية بأعداد غير مؤثرة وزيادة عدد الخبراء لتدريب قوات الشرطة والجيش الأفغاني, لكنها تقوم في الوقت نفسه بخفض عدد القوات القتالية حرصا علي عدم إغضاب الرأي العام الداخلي وتتجنب الخوض في طبيعة المخاطر التي يتعرض لها الجنود الألمان. هذه السياسة لن تجدي علي المدي البعيد خاصة بعد تصريحات ذبيح الله مجاهد المتحدث باسم حركة طالبان والتي هدد فيها ألمانيا بمزيد من القتلي في حال استمرار بقائها في أفغانستان.