لم يخرج إعلان نواكشوط الذى صدر عن القمة العربية, التى عقدت مؤخرا, عن نمطه التقليدى فى معالجة القضايا والتحديات, وكان أشبه بنسخة مكررة من بيانات القمم العربية السابقة فى التأكيد على حماية الأمن القومى العربى ومواجهة خطر الإرهاب والتطرف ودعم القضية الفلسطينية والمبادرة الفرنسية لاستئناف المفاوضات والدعوة لحل الصراعات فى اليمن وسوريا وليبيا والعراق, بما يثير التساؤلات حول مستقبل العمل العربى المشترك. وبالطبع فإن الحفاظ على آلية انعقاد القمة العربية هو إنجاز بحد ذاته يحمل الحد الأدنى من الترابط والتماسك العربى لكنه معرض للانفراط ما لم يكن هناك تغيير جذرى شامل فى الأهداف وآليات التعامل مع الأزمات والتحديات, فليس خافيا أن نمط التعاطى العربى لا يتوافق أبدا وحجم التحديات الكبيرة والخطيرة والمتصاعدة منذ سنوات, فالمنطقة العربية هى أكثر مناطق العالم سخونة بما تشهده من صراعات وحروب أهلية وأزمات وانتشار للتطرف والإرهاب والتى زادت بشكل كبير بعد ثورات الربيع العربي, وغالبية الدول العربية إما بها حروب طاحنة مثل ليبيا وسوريا واليمن والعراق وإما بها أزمات سياسية واستقطابات أو تدهور اقتصادي, وكان طبيعيا أن ينعكس الوضع العربى المتردى على الجامعة العربية ويجعلها مجرد مؤسسة بيروقراطية ليس لها أى دور أو إسهام فى حل المشكلات أو دفع وتطوير العمل المشترك اقتصاديا وسياسيا, ولذلك فقدت الجامعة وآلية القمة الثقة فى كونها الأمل والمنقذ للخروج من الحالة الراهنة, وهو ما عكسه التمثيل الضعيف على مستوى الرؤساء والاهتمام الإعلامى ورجل الشارع بها. هناك عوامل عديدة أوصلت الأمور إلى ما هى عليه الآن وتتمثل في: أولا: تسببت حالة الفراغ وضعف الجامعة فى تزايد الدور الخارجى على حساب الدور العربى فى معالجة الأزمات العربية وهو ما أسهم بدوره فى تعقيدها وإطالة أمدها وفشل كل الحلول السياسية لتسويتها, وسمحت بتمدد أدوار دول إقليمية أخرى مثل إيران كان لها الدور السلبى فى اشتعال الأزمات كما فى سوريا والعراق واليمن, إضافة إلى أن المنطقة تحولت إلى ساحة للحرب الباردة الجديدة بين الدول الكبرى مثل روسيا وأمريكا وتعارضت أجندتها ومصالحها مع المصالح العربية. ثانيا: أسهمت الاستقطابات والانقسامات الشديدة بين الدول العربية لاعتبارات سياسية فى إضعاف الموقف العربى ككل وعدم قدرته على بلورة رؤية موحدة تجاه الأزمات والتحديات, وكان يمكن للقمة العربية أن تحقق إنجازا واحدا يتمثل فى تحقيق المصالحة العربية وتأكيد أن استمرار الانقسام هو خسارة وضرر كبير على جميع الأطراف, وأن المستفيد الوحيد منه هو دول مثل إسرائيل فى استمرار احتلالها للأراضى العربية وعدم حل القضية الفلسطينية. ثالثا: اتسمت آلية القمة الدورية بالنمطية والبيروقراطية فى معالجتها للأوضاع العربية, وبالعمومية فى معالجة عشرات القضايا دون تحقيق أى إنجاز بشأنها, فعلى المستوى الاقتصادى لم يحقق العمل المشترك أى طموحات أو خطوات عملية على الأرض لأنه بدأ من حيث انتهى الآخرون ولم يتدرج كما حدث فى تجربة الاتحاد الأوروبى, كما أنه افتقد لأهم عنصر ضامن للتعاون الاقتصادى وهو عامل المصلحة وحسابات المكسب والخسارة, إضافة إلى تشابه السلع والخدمات العربية مما جعلها متنافسة وليست متكاملة وتحولت الاتفاقيات الاقتصادية لحبر على الورق. ما بعد القمة العربية يتطلب عدة أمور للخروج من المأزق الحالى: أولها: إعادة ترتيب البيت والأجندة العربية والتركيز على أبرز قضيتين تمثلان أولوية عاجلة وهما الإسراع فى تحقيق المصالحة العربية ولم الشمل العربى, وهنا يمكن لمصر والسعودية قيادة هذه المبادرة فى تصفية الخلافات والصراعات بين الدول العربية, كذلك التركيز على جعل 2016 عاما لإطفاء النيران المشتعلة فى الدول العربية الأربع, وهى سوريا والعراق واليمن وليبيا, والمستمرة منذ سنوات بلا أفق واضح ويتهددها التقسيم والتفتت إلى جانب ما أحدثته من تدمير للبنى الأساسية ومئات الآلاف من القتلى وملايين اللاجئين وتحولت لبيئة لتفريخ الجماعات الإرهابية مثل «داعش» والقاعدة وجبهة النصرة وأصبح الإرهاب الخطر الأول عربيا وعالميا, وهنا يمكن أن يكون الدور العربى إيجابيا فى التدخل المباشر فى تلك الأزمات لوقف نزيف الدم ودوامة العنف المستعرة عبر حلول سياسية توافقية تشمل تحقيق المصالحة الوطنية بين أطراف الصراع والعدالة الانتقالية وإقامة نظام ديمقراطى فيها يرتكز على المواطنة لاستيعاب الاختلافات العرقية والدينية فيها, ودعم عملية التنمية وإعادة الأعمار والمحافظة على سيادتها ووحدتها. ثانيها: الإسراع فى إجراء إصلاحات شاملة لمنظومة العمل العربى وللجامعة العربية ولآليات عملها حتى تستعيد دورها كقاطرة للعمل العربى المشترك, ولدورها السياسى فى تسوية الأزمات ومواجهة العدوان الإسرائيلى المستمر على الفلسطينيين ومواجهة خطر الإرهاب, وهذا لن يتحقق إلا بوجود إرادة سياسية عربية حقيقية فى تفعيل الجامعة. العالم العربى الآن فى مفترق طرق واضح فإما الوقوف والمراجعة الشاملة وإعادة التصحيح من جانب القادة العرب, وإنجاز هذه الأولويات العاجلة, وإما الاستمرار فى ذات المنهج وهو ما يعنى استمرار نزيف الدم العربى, وساعتها ستصبح القمة العربية قمة للإحباط وليست قمة للأمل. لمزيد من مقالات د . أحمد سيد أحمد