اندفعت أحداث الشرق فى السنوات والشهور الماضية لتصل إلى ذروتها الأسبوع الماضى فى تركيا. ووسط أحداث خطيرة فى دولة عضو بحلف شمال الأطلنطى وبها قاعدة عسكرية تحوى أسلحة نووية تكتيكية، تذكرت فيلماً أمريكياً وهو فيلم «كوكب القرود». ففى الفيلم العجيب تنقلب الحقائق، وتدعى القرود العلم والحكمة ويعيش البشر فى أقفاص. وفى أيامنا هذه، ووسط جرائم تاريخية ضد شعوب الشرق، تنقلب الحقائق عند البعض فتتحول تركيا إلى تجربة ديمقراطية فريدة، وإذاعة الجزيرة إلى صوت العاصفة، ويتحول أثرياء البترودولار إلى مدافعين عن الحريات، ويتحول رجب إردوغان راعى المذبحة السورية إلى رمز ديمقراطى يتراوح بين سارتر وجيفارا. تلك المواقف والمشاهد العبثية لا تخفى حقيقة تركيا ولا دورها السياسى الحقيقى فى الشرق الأوسط، وإن ارتدت العباءة والعمامة بعد عقود من أتاتوركية تأصلت فى كل مكونات الدولة التركية وذراتها، فلقد تركت تركيا كبلد ضائع هجين تبحث عن هويتها وحرمت الأتراك حتى من القدرة على قراءة تاريخهم عندما ألغيت حروف الكتابة العربية. تركيا دولة مركزية فى حلف الأطلنطى وكانت دائما جزءا من مسلسل بناء الأحلاف العسكرية فى الشرق وحصار الدول العربية. فهى الدولة التى تفجرت فيها أزمة الصواريخ الكوبية عندما وضعت الولاياتالمتحدة صواريخها الموجهة ضد الاتحاد السوفيتى فرد السوفيت بوضع صواريخهم فى كوبا. وهى كذلك الدولة التى كانت القوات الإسرائيلية تدير مناوراتها العسكرية السنوية على أراضيها مع الجيش التركى بحجة ضيق مجالها الجوى على أراضيها. وهى كذلك الدولة التى تندفع إليها الاستثمارات الخليجية والسعودية ويسمح لسكانها بتكوين (سرسوب) الهجرة الدائم لدول وسط أوروبا لتعويضها عن نقص السكان فى تفاهمات عميقة لا تحدث إلا بين الحلفاء. تركيا القابعة على ممرات دولية مهمة كالدردنيل والبوسفور هى شريك مطيع فى السياسات الغربية، لا يملك إلا الطاعة العمياء لقرارات تأتى من خارج بلاده. فقاعدة (إنجرليك) العسكرية المطلة على البحر المتوسط قاعدة مهمة لحلف الأطلنطى يوجد بها آلاف الجنود الأمريكيين، وتوجد بها أكبر إمكانات تنصت أمريكية على دول الشرق الأوسط وروسيا، وبالطبع تركيا ذاتها. قاعدة (إنجرليك) كانت وظلت وستظل محورا أساسيا فى أى صراع فى الشرق الأوسط من غزو بغداد إلى قصف طرابلس للغارات على أفغانستان. تركيا ارتدت العباءة الإسلامية دوما بمباركة من شركائها فهى الوجه الإسلامى للاستعمار الجديد . صارت أنقرة عاصمة التنظيم الدولى للإخوان المسلمين، وصارت الدولة التركية قائد الاوركسترا لفيلق المرتزقة الإسلاميين يتحرك من الصينلطرابلس. صارت التجارة بالإسلام السياسى مع عواصم الغرب والعالم ورقة قوة للمرشد العام إردوغان فى اسطنبول. تركيا تلقت عبر عقود منحا مالية واقتصادية مهولة جزاءا كريما لولائها المطلق. تركيا إذن هى حليف مخلص للسياسة الغربية فى الشرق، وازدادت أهميتها منذ غزو العراق ومع مصادمات إسرائيل مع حزب الله وصعود القطب الإيراني. الأزمة التركية الأخيرة اقتربت من قطاعات عسكرية تركية فائقة الأهمية وهى مثار اهتمام كل المنظومة العسكرية الغربية، فاعتقل القائد التركى لقاعدة انجرليك (بكير أركان) حيث إن الطائرات المشاركة فى الانقلاب قد تم تمويلها بالوقود بمساعدة من تلك القاعدة. سمحت السلطات التركية للطيران الأمريكى باستخدام القاعدة بعد أن كانت قد قطعت عنها الكهرباء ثم دخلت الشرطة التركية قاعدة انجرليك لتفتيشها بعد 48 ساعة من بدء الانقلاب. فترى ما هو الأمر ولماذا تتطاير الآن التصريحات والاتهامات المتبادلة بين إردوغان وبين الولاياتالمتحدة؟ يتنازع الإدارة الأمريكية نهجان لتحقيق ذات الأهداف فى شرق المتوسط. أهداف أهمها حصار روسيا وتقليص دورها كقوى عظمى إلى جانب إعداد الشرق لترتيبات تضمن أمان الدولة العبرية وخريطة لها تضم الجولان. هذه الترتيبات تضم الإعداد لنشوء دولة كردية فى شمال سورياوالعراق. تلك الدولة الكردية حتى ولو صغيرة فإنها تحمل فى طياتها عوامل الفناء للدولة التركية ذاتها. لقد تشابكت الأحداث فى الشرق الأوسط مع أزمة اقتصادية دولية طاحنة وتصاعدت مع موجات إرهاب وعنصرية وصلت إلى قلب أوروبا مما يدفع بمصفوفات سياسية عظيمة للتردد وللدعوة بالتراجع عن استكمال المشروع الاستعمارى فى الشرق الأوسط. المتراجعون والمترددون وعلى رأسهم الرئيس الأمريكى ذاته أوباما، وما تراجعه وموقفه المحجم عن استخدام القوة المباشرة فى أثناء أزمة غاز السارين إلا نموذج. ولكن هناك أيضا من لا يعنيه كل هذا ويستمر فى التوغل فى بحر الدماء بحجه تحقيق أهداف استراتيجيا عظمى وكونية. مثل أولئك مثل جراح يتقدم فى انتزاع ورم ولا يعنيه أن يموت المريض بين يديه، مادام هو ذاته حيا! ذلك هو حال من اصروا على غزو العراق فيما سبق وهو حال المصممين على نزع أسلحه حزب الله وتقسيم سوريا وإنشاء الدولة الكردية اليوم. آن أوان المشهد الأخير ودفع حساب المستحقات والتخلص من الشهود والحلفاء والأدوات التى لا يمكن الدفاع عنها وجاء الأوان لأن يختفى من المشهد بانقلاب مدبر داخل تركيا أو من خارجها. ولا بأس من التراجع والإنكار إن بدا أن الانقلاب قد فشل. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي