أمس الأول مر 112عاما على رحيل الكاتب الروسى أنطون تشيخوف الأب الروحي لفن القصة القصيرة في العالم، وصاحب مجموعة من أهم المسرحيات التي مازالت تؤدى على خشبات المسرح العالمي اليوم .. «الأهرام» تفتح لقرائها اليوم نافذة يطل منها القاريء على حياة و ابداع تشيخوف من ناحية, وعلى لحظة نادرة عاشها الدكتور محمد المخزنجي على مكتب تشيخوف... تشيخوف.. أنطون بافلوفيتش تشيخوف. أحب أن أردد اسمه كاملا كلما أقبل في خاطري. إنه بالنسبة لي ليس كاتبا إنسانيا عظيما فقط ، بل هو روح إنساني عظيم فكتابته هذه التي تبدو بسيطة جدا ، هي شديدة العمق للغاية، فقد كان شيخا قبل الأوان، شيخا في إهاب يافع جميل، عارفا بالأغوار الإنسانية معرفة مشغولة برحمة لا أصفى منها ، وكما كل كاتب عظيم اكتشف قوانين كُبرى في الوجود الإنساني ، فقصة الحوذي الذي مات ابنه ولم يجد أحدا يطرح بين يديه بعضا من آلام قلبه، لجأ في النهاية لبث شكواه ونجواه لحصانه، إنه قانون أزلي حيث كل إنسان في حاجة لحصان ما يفرغ في حضوره الصامت وغير الناقد بعضا مما يعتصر قلبه في لحظات الألم، إنه قانون عام ، وهو قانون في العلاج النفسي ، حيث يوصى الأطباء النفسيين باتخاذ "وضع المستمع" ، المصغي ، حيث يُشكِّل هذا الوضع البسيط الصبور فرصة علاجية عظيمة للنفوس المُتعَبة. كان تشيخوف معنيا بالنفس الإنسانية ليس فقط خلال قصصه وأشهرها " العنبر رقم 6 " ، بل كطبيب ، صحيح أنه توجه للتخصص في الطب الوقائي ، وكتب أطروحة دكتوراه عن سجناء جزيرة سخالين وظروف حياتهم القاسية والمريرة ، وتبني قضيتهم حتى تغيرت إلى الأفضل قليلا ، لكنه كطبيب كان مهتما جدا بالظواهر النفسية للإنسان ، وقد كان يتبادل مناقشة الحالات التي تعرِض له مع بروفيسور طب الأعصاب والنفس الروسي سرجي كورساكوف الذي يعرفه كل أطباء النفس من خلال "متلازمة كورساكوف" التي تتظاهر أعراضها بتعويض فقد الذاكرة ومواجهة الحيرة بابتكار أحداث تملأ فجوات الزمن، مع فقد الاهتمام بما هو مستقبلي، والتي ترجع لنقص مادة الثيامين أو فيتامين بي 1 ، وهذه المتلازمة المدهشة بابتكارات أخيلتها تكاد تكون مادة خصبة جدا من زاوية التصور الفني. وفي هذا السياق هناك قصة عبقرية لتشيخوف اسمها " الراهب الأسود" تعالج حالات الهلاوس البصرية التي يظهر فيها لبطل القصة راهب أسود لايراه غيره، وكيف أن حضوره كان مريحا لبطل القصة الذي لم يصمه تشيخوف بالمرض العقلي ، بل أدان عدم تركه وما يريحه كحالة إنسانية مغايرة لا مختلة، وهو موقف فلسفي ونفسي عبرت عنه مدرسة مهمة في الطب النفسي بعد ذلك بعشرات السنين في الغرب عُرفت بالمدرسة المضادة للطب النفسي، والمعني هنا كان ولايزال الطب النفسي المدرسي والاختزالي، وكان رائداها الطبيبين النفسيين "لانج" و"ساز"، وأعتقد أن هذا كان هو موقف تشيخوف مما يسمى المرض النفسي، وإلى حد ما يروق لي هذا الموقف، وأميل إلى جوهر توجهات هذه المدرسة التي يعتبرها البعض فوضوية وعدمية، وهي ليست كذلك. كان تشيخوف طبيبا في ثنايا وعمق كتابته، وبتسمية أدق كان" حكيما"، ولم يتنازل عن هذا السمت في كل كتاباته أبدا، وكان يقول " عندما يختلف ما أكتبه مع الحقائق العلمية أفضل ألا أكتب على الإطلاق"، وعندما زرت بيته في موسكو وتأملت بعض المخطوطات في المتحف الملحق بالبيت أدهشني جدا ، وطمأنني جدا. اكتشفت لديه الحيرة التي تبلغ حد العصبية والعنف الداخلي العارم والذي كان يخضعه بروح متحضر لواحد من أكثر بني البشر وداعة، كان يكتب ويشطب بعنف ويعيد الكتابة ، كانت روحه الوديعة تبحث عن أعلى درجة من الكمال برغم ما في ظاهر كتابته من بساطة مفرطة. وقد تعودت كلما كنت في موسكو أن أذهب إلى بيته وأقضي وقتا طويلا داخله متجولا على مهل ، كانت روحه الطيبة هناك ، وكنت أحس في بيته بسلام نفسي عجيب . وفي هذا البيت ، وقعت في مشكلة عندما حاولت أن أجلس إلى مكتبه برغبة لم أستطع مقاومتها ، وانقلبت الدنيا وكادوا يطلبون لي الشرطة لأنني تجاوزت قوانين زيارة " المتاحف"، بينما لم يكن هذا البيت بالنسبة لي متحفا؛ كان بيت صديق كبير عزيز. وقد تفهموا وضعي وسمحوا لي بدقيقة على مكتب تشيخوف المغطى بجوخ أخضر، وكان للغرابة موجها للحائط، كأنه كان ببصيرته وخياله الرائقين يرى عوالمه عبر الجدار. وفي هذا البيت أذهلتني مفاجأة أقسم إنها وقعت كما رويتها بالحرف، وكانت خارقة تماما وقد سجلتها في قصتي "حقيبة بلون الشفق والرمل ". فقد حدث وأنا في المدرسة الابتدائية أن وافق والدي على شراء حقيبة مدرسية غالية من جلد الغزال ذي اللون البرتقالي الطوبي، أقرب للون الهافانا ، برغم أننا كنا من متوسطي الحال، وقد أذهلني أن أرى حقيبة تشيخوف الطبية في الصيوان الزجاجي باللون والتركيب ذاته، حتى أكاد أجزم أنها توأم حقيبة طفولتي ، أو هي نفسها . وهو ما عبرت عنه في القصة التي اعتبرها البعض محاكاة للواقعية السحرية، بينما كانت واقعية تماما . هذه هي حياة الإنسان، نفس الإنسان، الأبعاد الخفية للوجود الإنساني ، تلك القارة المجهولة، لكائن عابر ، لكنه قادر على ترك أثر يدل عليه بقوة عبر الأزمنة. إنني أعتبر نفسي محظوظا لاقترابي إلى هذا الحد من هذه الروح، كاتبا ، وطبيبا نفسيا، ومفردة بشرية دفعتها الأقدار للقاء عبر الأزمنة مع مفردة بنقاء ورهافة مفردة تشيخوف. وقد سرني جدا أن عرفت من الدكتور أبو بكر يوسف ، أشهر من ترجموا أدب تشيخوف أنه مر بمصر عبر قناة السويس وهو في طريق عودته من الشرق الأقصى الروسي إلى موسكو، فقد كانت الرحلة أيسر عبر البحر من عبور شبه القارة الروسية آنذاك. وكلما وجدت نفسي على شاطئ القناة في السويس أو الإسماعيلية أو بور سعيد أجدني أهمس في داخلي: تشيخوف مر من هنا. تشيكوف زارنا. وفي هذه الأزمنة الصعبة أظننا محتاجين لإعادة قراءة تشيخوف. أنطون بافلوفيتش تشيخوف.