لم تكن أصوات المدافع، ورائحة البارود، قد انقشعت من فوق رمال سيناء بعد حرب أكتوبر73، حتى جاء رد بريطانيا بالموافقة على حضور ضابط مصرى لكلية كمبرلى الملكية بإنجلترا للدراسة.. بعد توقف دام أكثر من عشرين عاما، منذ أيام حرب السويس عام 1956. تم إرسالى مبعوثاً مصرياً فى كلية كمبرلى الملكية فى إنجلترا، فكانت سعادتى لا توصف كأول ضابط مصرى يلتحق بالدراسة فى واحدة من أعرق الكليات فى العالم والتى تخرج فيها أكبر القادة العسكريين. وكان للكلية احتفالً بوصولي، لأنهم فتحوا صفحة لمصر كانت مغلقة فى الكلية منذ أيام حرب السويس. أمضيت بالكلية عاما ونصف العام كنت خلالهما الضابط الأشهر فيها، ليس لشخصى وإنما بصفتى ضابطاً مصرياً من جيش مصر الذى انتصر فى حرب أكتوبر 73 التى تعد أحدث حرب تقليدية تمت فى العصر الحديث، بعد الحرب العالمية الثانية فلم يكن يمر يوم واحد، إلا وكان يطلب مني، خلال المحاضرات، أن أشرح للدارسين، وعددهم 180 ضابطاً، منهم 60 ضابطاً من 44 دولة غير بريطانيا، كيفية تحقيق المصريين هذا الفكر العسكرى فى حرب أكتوبر73. وبالرغم من وجود ضابط إسرائيلى معى فى هذه الدراسة، فإنه لم يتم سؤاله ولا مرة واحدة عن حرب 73.. علماً بأن معظم القادة الإسرائيليين تخرجوا فى هذه الكلية مثل شارون، أليعازر، جونين، إسرائيل تال، باريف .وغيرهم. وبعد تخرجى فى الكلية، وحصولى على المركز الأول فى الدراسة تم تعيينى مدرساً بالكلية وكانت تلك المرة الأولى التى يعين فيها ضابط من خارج الكومنولث البريطانى مدرسا بالكلية. وأتاح لى عملى كمدرس، أن أشارك فى ندوة حول سياسة الدفاع المضاد للدبابات فى مسرح العمليات الأوروبى BAOR .وهى منطقة العمليات المنتظرة للفيلق البريطاني. وبالطبع صنفت هذه الندوة تحت درجة «سرى للغاية» .وقد تعهدت، قبل حضورها، بعدم إفشاء أي معلومات، أو أسرار مما دار فى هذه الندوة. ولقد كان السبب الرئيسى فى دعوتى لحضور هذه الندوة، هو الاستفادة بخبرة الجيش المصرى فيما قدمه من فكر فى الدفاع المضاد للدبابات، خلال حرب أكتوبر 73. مع نهاية الندوة، تقدم لى جنرال بريطاني، يرأس مجلة British Army Review، التى كانت واحدة، من ضمن 4 مجلات عسكرية عالمية يهتم بها المفكرون العسكريون، وهى الأمريكية American Army Review، والسوفيتية Soviet Army Review، ثم إصدار معهد الدراسات الاستراتيجية فى لندن Military Balance،وطلب منى الجنرال الإنجليزى أن أكتب مقالات عن حرب أكتوبر 73 من وجهة النظر المصرية، لأن كل ما كتب، قبل ذلك، تم بمعرفه ضباط إنجليز وأنه، بعد متابعته للندوة، يرى ضرورة أن يتعلم الضباط الإنجليز، الكثير من خبرة المصريين فى تلك الحرب. وبدأت فى كتابة خمس مقالات تصدر فى خمسة أعداد شهرية، كانت الأولى عن الاستعداد والتجهيز لحرب أكتوبر، والثانية عن اقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف، والمقالة الثالثة عن إنشاء رءوس الكبارى الخمسة على قناة السويس وصد الهجمات المضادة للقوات الإسرائيلية، والرابعة عن أعمال التطوير شرقاً فى اتجاه المضايق، وكانت المقالة الخامسة عن إيقاف هجمات شارون فى اتجاه الإسماعيلية واحتواء الثغرة. ويعلم الله أنها كانت فترة عصيبة، اجتهدت فيها لإبراز الفكر العسكرى المصري، وعظمة التخطيط والتنفيذ دون الإخلال بمفهوم الأمن، ونشر أي معلومات تؤثر على أمن القوات المسلحة المصرية. وخرجت المقالات فى خمسة أعداد شهرية، وكان لهذه المجلة تقليد، بأن ترسل مع كل عدد، قصاصة صغيرة، عبارة عن استبيان رأى يملؤها الضابط الإنجليزي، ويعيدها للمجلة لكى تتأكد رئاسة المجلة من وصول العدد للضابط، أولاً، ولتحسين مضمونها ثانياً. وكان الاستبيان عبارة عن سؤالين، هما «هل هناك موضوع معين ترى أن تقوم المجلة بعرضه فى أعداد قادمة؟» والسؤال الثانى هو» ما هى أفضل مقالة فى هذا العدد؟» كانت المفاجأة أن نتائج استطلاع الرأى أظهرت أن المقالات الخمس عن حرب أكتوبر 73 فى الاعداد الخمسة المتتالية حصلت على مركز «أفضل مقالة» من جميع الضباط الإنجليز. لذلك قررت إدارة المجلة تكريمي، بدرع صغيرة هدية لى (كاتب المقالات) لأن هذه النتائج كانت سابقة تعد هى الأولى من نوعها فى المجلة. ونظراً لأننى كنت قد غادرت بريطانيا إلى مصر آنذاك، فلقد قررت رئاسة المجلة إرسال الهدية إلى الملحق العسكرى البريطانى فى القاهرة، الذى عرض الأمر، بدوره، على السفير البريطانى لدى مصر، فأمر بإقامة احتفال، تتم فيه دعوة الشخصيات العامة، والعسكرية لتكريم الضابط المصري، الذى حصلت مقالاته الخمس على المركز الأفضل لدى الضباط الإنجليز. وقامت السفارة بمخاطبة إدارة المخابرات، للموافقة على دعوة الضابط، وإقامة الحفل. جاء رد المخابرات بالرفض، نظراً لعدم حصولى على إذن مسبق قبل كتابة ونشر المقالات، وأن الضابط يتسلم الهدية من مبنى إدارة المخابرات. وعندما ذهبت لتسلم الدرع تم إبلاغي، فى الاستعلامات بأنها موجودة فى الأرشيف فتوجهت إلى مكتب الأرشيف، فى البدروم، ووقعت فى دفتر الأرشيف وتسلمت الهدية. لمزيد من مقالات لواء أ. ح. د. م. سمير فرج