«إنها أصعب مهمة لرئيس وزراء بريطانى منذ حرب السويس... لكنها انجيلا ميركل بريطانيا» هكذا لخص العضو البارز فى حزب المحافظين جيرمى هانت التحديات التى تواجه رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة تيريزا ماي. لا يبالغ هانت، فتيريزا ماى ستواجه مهمة ضخمة غير مسبوقة لفصل بريطانيا عن قوانين الاتحاد الأوروبى فى كل المجالات، بدءا من الزراعة والصحة والصناعة والبنوك وحقوق الإنسان والصيد وحقوق العمال والتجارة إلى الأمن والدفاع والسياسة الخارجية والتى تراكمت على مدار أكثر من أربعة عقود, ثم التفاوض مع الأتحاد الأوروبى حول شكل وشروط العلاقة الجديدة. بريطانيا بإختصار بصدد إعادة تعريف نفسها وتعريف علاقاتها مع جيرانها الأوروبيين والعالم بعد نتائج الاستفتاء. لكن إذا كان هناك سياسى بريطانى قادر أكثر من غيره على تولى هذه الملفات الشائكة، فلا شك أن هذا السياسى هو السيدة ماي. فالسيدة التى أصبحت أمس رئيس الوزراء ال76 فى تاريخ بريطانيا ليست أيديولوجية صارمة وليست مملوءة بنفسها ولا تتحرك بدافع الارث السياسي. ولانها لم تدعم «معسكر مغادرة» الأتحاد الأوروبي، فإنها لن تتعامل مع الخروج بمنطق «الأنتصار الايديولوجي»، بل بالكثير من البرجماتية. وعندما تذهب للتفاوض مع قادة الاتحاد الأوروبى فى بروكسل لن تجد استقبالا عدائيا كما كان سيجد عمدة لندن السابق بوريس جونسون أو وزير العدل السابق مايكل جوف، فهى لم تقل إن الأتحاد الأوروبى غير ديمقراطي، وعلى وشك الانهيار، ويسير على خطى هتلر كما قال جونسون مثلا. كما أنها سياسية ومفاوضة صعبة المراس وصبورة فقد دخلت فى معركة قانونية فى بريطانيا لمدة 10 سنوات من أجل ترحيل الداعية المتطرف أبو قتادة. بدأت ماى حياتها السياسية منتصف الثمانينيات، بينما كانت مارجريت تاتشر فى منتصف حياتها السياسية. وفى عام 1997 أنتخبت عضوا فى البرلمان البريطاني، ثم صعدت بقوة داخل الحزب وشغلت مناصب وزيرة الظل للتعليم، والعمال والمعاشات، ورئيسة مجلس العموم، ورئيسة حزب المحافظين لفترة وجيزة عندما كان فى المعارضة. ومنذ أنتخبها للبرلمان كانت الصفة الملازمة لها أنها «خامة رئيسة وزراء». ومنذ 2010 كلفها رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون مسئولية وزارة الداخلية. ويقول ديفيد لويز القيادى فى حزب «الأحرار الديمقراطيين» الذى عمل مع ماى عن قرب خلال الائتلاف الحكومى بين «المحافظين» و«الأحرار الديمقراطيين» بين 2010 و2015 إنها عندما بدأت عملها كوزيرة للداخلية كانت «عصبية جدا» وخلال الاجتماعات تنظر فى الأوراق التى أعدتها. لكنه يقول إنها شقت طريقها بالعمل الدءوب والحصافة التى مكنتها من تجنب الكوارث التى تحل عادة على وزراء الداخلية. ووسط كل النساء على الساحة السياسية البريطانية، وهن كثيرات وقديرات، دائما ما كانت ماى أقربهن لتكون ثانى أمرأة تشغل منصب رئيسة الوزراء بعد تاتشر بسبب شخصيتها. فهى جادة جدا، ومتحفظة فى علاقاتها داخل الحزب وفى الحكومة. (لا تجلس للنميمة فى مقاهى ويستمنستر وليس لها فريق أو شلة تتحرك معها). وهى لا ترى السياسة لعبة للنفوذ والقوة بل «وظيفة للخدمة العامة». وبالتالى وبالرغم من أنها من أطول الشخصيات خدمة فى ويستمنستر، فإنها تعتبر غريبة عما يطلق عليه «ثقافة قرية ويستمنستر». ولا تخاف ماى المعارك ولا خلق الأعداء. كما لا تخاف التعبير عن رأيها بصراحة. وخلال عملها كوزيرة للداخلية تولت ملفات الفساد والعنصرية فى الشرطة البريطانية وعانت عداء أجهزة الشرطة وسخطهم عليها، لكنها أجبرتهم على التغيير وحذرتهم من «لعب دور الضحية». كما تولت ملف العبودية الحديثة والعنف ضد النساء. وفى حفل عشاء لمناقشة قضية العبودية الحديثة، وجهت حديثها للحضور قائلة إن العبودية الحديثة حاضرة فى كل مكان وأنه «بينما نتناول العشاء الآن هناك ربما على مقربة منا شخص يعانيها». كما أنها ناقدة لبعض توجهات وسياسات حزب المحافظين وفى اجتماع لمسؤولى الحزب واجهتهم بالحقيقة الصعبة: «قاعدتنا الشعبية ضيقة... ويطلقون علينا وصف الحزب البغيض». ويقول جورج هولمبرى أحد مساعديها ومستشاريها فى البرلمان:«إنها سياسية من النوع النادر. تجلس، وتستمع، وتفكر، وتحسب، وتأخذ النصيحة، وتفحص الحقائق، وتغير رأيها، ثم تعدل رأيها إذا أستجدت حقائق. لكنها بمجرد أن تتخذ القرار تسير عليه وتطبقه مهما كان صعبا». لكن لماى منتقدين ممن عملوا معها فى الحكومة أو البرلمان. فالقيادى البارز فى حزب «الأحرار الديمقراطيين» فينست كابل والذى عمل معها عن قرب خلال الحكومة الأئتلافية بين حزبه و«المحافظين» يقول إن «تزمتها» و«تصلبها» قد يكون مشكلة. فيما يقول ديفيد لويز القيادى بدوره فى حزب «الأحرار الديمقراطيين» إنها «مهووسة بالسيطرة»، موضحا أن هذا قد يكون مقبولا فى وزارة صعبة وحساسة مثل الداخلية، إلا أنها كرئيسة للوزراء يجب ان تظهر مهارات مختلفة من ضمنها «توزيع التكليفات» لأنها لن تكون قادرة على إدارة كل شىء بنفسها. ويتابع أن ماى بسبب صرامتها وجديتها وصعوبة شخصيتها قد تكون شخصا «من الصعب الوقوع فى حبه... لكنها شخص من السهل جدا احترامه». غير أن أنصارها ومن بينهم رئيس مجلس العموم كريس جريلينج، والذى تولى رئاسة حملتها الأنتخابية يقول إنها قادرة على التأقلم والمرونة. التأقلم والمرونة هما ما تحتاجه ماى بشدة فى الأيام المقبلة, فأمامها مهمة شديدة الصعوبة والكثير من الأولويات الملحة وعلى رأسها: أولا: «الخروج المثمر» من الإتحاد الأوروبي لا شك أن أهم أولوياتها ستكون التفاوض على شروط الخروج من الأتحاد الأوروبى بأقل أضرار ممكنة للأقتصاد البريطاني. وبعد آخر اجتماع وداعى لكاميرون مع حكومته، جلست ماى نصف ساعة اضافية مع كاميرون، غالبا لإعطائها نصائح ضرورية بعدما أدت التطورات إلى توليها المنصب دون تجهيز طويل. وتقول ماى إن «الخروج يعنى الخروج»، موضحة «لن تجرى أى محاولات للبقاء فى الاتحاد الأوروبى ولا أى محاولات للعودة إليه من الباب الخلفى ولا استفتاء ثان». لكن الخروج له أشكال مختلفة ونماذج عدة. ولأنها لم تكن ضمن «معسكر الخروج»، فليس من المعروف ماذا تقصد بالخروج من الأتحاد الأوروبي. هل تريد الانضمام للمجموعة الأقتصادية الأوروبية؟ هل تريد البقاء داخل السوق الأوروبية الموحدة؟ فهناك غموض كبير فيما يتعلق بكيف ستدير مفاوضات الخروج وما هى أهدافها. الشىء الوحيد المؤكد أنها لن تتعجل تفعيل المادة 50 من ميثاق لشبونة. ففى أواخر الشهر الماضى قالت ماى إن تفعيل المادة 50 لن يتم قبل الأتفاق على «أستراتيجية التفاوض» البريطانية مع الشركاء الأوروبيين والأطراف المعنية داخل بريطانيا، مثل الأحزاب السياسية وأركان الأتحاد البريطاني، ويلز واسكتلندا وايرلندا الشمالية وأنجلترا. إضافة إلى المدن التى يجب أن يكون لها صوت فى الترتيبات مثل لندن الذى سيتوقف مصيرها كعاصمة مالية لأوروبا على طبيعة العلاقات المستقبلية بين بريطانيا والأتحاد الأوروبي. والإحتمال الأكثر واقعية أن تفعيل المادة 50 لن يكون قبل نهاية العام الحالى، لكن هذا قد يضع ماى فى صدام مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. كما أن أى تأخير أو التباس فى مفاوضات الخروج قد يزيد من حالة الغموض أمام المستثمرين الذى بدأ عدد كبير منهم يقلص أو يوقف استثماراته فى بريطانيا حتى تتضح الصورة. وستكون المفاوضات صعبة بشكل خاص، بسبب المطالب المستحيلة التى تريدها بريطانيا. فهى من ناحية تريد إتفاقا يعطيها حرية التبادل التجارى فى البضائع والخدمات مع أوروبا بدون قيود، لكن فى نفس الوقت تريد التحكم فى حرية الحركة والتنقل. وبحسب قولها: «أريد أن أوضح أننا حين نجرى مفاوضاتنا يجب أن تكون الأولوية للسماح للشركات البريطانية بتجارة البضائع والخدمات فى السوق الموحدة»، لكن «ما زلت أعتقد أن علينا خفض الهجرة إلى مستويات محتملة». كما سيكون على ماى معالجة التناقضات داخل حزبها وبريطانيا اجمالا. فبينما يرفض الجناح اليمينى القوى فى الحزب من حيث المبدأ فكرة الأستمرار فى السوق الأوروبية الموحدة لأن البقاء معناه تسليم بريطانيا بمبدأ حرية تنقل العمالة الأوروبية، تصر اسكتلندا وايرلندا الشمالية ولندن ومدن أخرى كبرى على حتمية أستمرار بريطانيا فى السوق الموحدة. ولوحت اسكتلندا بالفعل أنه بدون جواز المرور للسوق الموحدة، ستتجه الحكومة الاسكتلندية دون شك للدعوة لإستفتاء ثانى للإنفصال عن بريطانيا. ولا عجب أن يكون أول شخص التقته ماى بعد المشاورات مع كاميرون، هو روث ديفيدسون زعيمة المحافظين فى اسكتلندا التى أخبرت ماى أن الطريقة الوحيدة لبقاء اسكتلندا ضمن الأتحاد البريطانى هو أستمرار وجود بريطانيا داخل السوق الأوروبية الموحدة. ثانيا: الأقتصاد و«محافظة الياقات الزرقاء» قبل أيام قليلة لم تكن أفكار ماى الأقتصادية معروفة على نطاق واسع فى بريطانيا. لكنها فى خطاب محورى يوم الأثنين الماضى حول أولوياتها، تحدثت عن نوع جديد أكثر رحمة أطلق عليه فورا:«محافظة الياقات الزرقاء» فى دلالة على برنامج يراعى الطبقات العمالية والوسطي. ففى خطابها فى برمنجهام حددت ماى ملامح رؤيتها للاقتصاد ودعت «لبلد يناسب الجميع وليس فقط لقلة ميسورة». وقالت إن الأولوية ستكون لبناء منازل للطبقات الوسطى والفقراء، والتصدى للتهرب الضريبى من قبل الأفراد والشركات، وخفض تكلفة الطاقة وتقليص الفجوة «غير الصحية» بين رواتب الموظفين وكبار مسئولى الشركات. وأضافت «تحت قيادتى سيصبح حزب المحافظين نفسه بشكل كامل ومطلق فى خدمة الفئة العاملة العادية.. وسنجعل من بريطانيا بلدا يناسب الجميع». ويقول المقربون من ماى إنها لن تواصل برنامج التقشف الأقتصادى لان ذلك من شأنه أن يبطئ الاستهلاك والتوظيف والأستثمار. ثالثا: الحد من الهجرة من أجل مجتمع أكثر انسجاما لم يصوت البريطانيون فقط للخروج من الأتحاد الأوروبي، بل لإحداث تغييرات هيكلية وجذرية فى بريطانيا. وستكون ماى مسئولة عن تحقيق هذا وهو لن يكون امرا سهلا. فحملة المغادرة وعدت البريطانيين بمستقبل مشرق خارج الأتحاد الأوروبى من دون ان يقولوا كيف. لكنهم قالوا إن الخطوة الأولى لتحقيق هذه المستقبل المشرق هى الحد من الهجرة، وهذا مبدأ لا تعارضه ماي. فقد قالت مؤخرا:»عندما تكون معدلات الهجرة عالية والتحولات الاجتماعية سريعة جدا، من الصعب بناء مجتمع منسجم». لكن تقليص أعداد المهاجرين من دول الأتحاد الأوروبى لن يحدث فورا. كما أن هناك الكثير من الترتيبات اللازمة لحدوثه. رابعا: الأمن وقوة الردع النووى البريطانية هناك انقسامات فى بريطانيا حول الأحتفاظ بقوة الردع النووية البريطانية وخلافات حول الإنفاق العسكري. وهذه قضية مهمة جدا بالنسبة لماى التى برغم المطبات الأقتصادية التى قد تواجهها بريطانيا بعد الخروج من الأتحاد الأوروبي، تريد ضمان أن لا تمس القدرات العسكرية البريطانية. وقبل أيام قالت ماي:»حكومة المحافظين التى سأقودها ستعطى الأولوية لسياسة دفاعية قوية. من مصلحتنا القومية أن نحافظ على ما تعد أهم قدرة أمنية ودفاعية فى أوروبا مع التزامنا بإنفاق اثنين بالمئة من إجمالى الناتج المحلى على الدفاع... وعلى وجه الخصوص علينا الحفاظ على قوة الردع النووى المستقلة. من الجنون التفكير ولو للحظة واحدة فى التخلى عن قوة الردع النووى البريطانية المستقلة». ومن المقرر أن يصوت البرلمان الأسبوع المقبل على قرار ببناء غواصات نووية جديدة وربما يكون هذا من أوائل قرارات ماى فى الحكم, خامسا: توحيد حزب منقسم وبلد مستقطب ربما المهمة الحقيقة الأصعب إلى جانب ملف الخروج من الأتحاد الأوروبى هو توحيد حزب المحافظين وبريطانيا عموما بعدما أدت نتائج الأستفتاء إلى أنقسامات واستقطاب حاد. وستسعى ماى إلى جمع الحزب حولها باختيار حكومة تعبر عن كل الأطياف داخل حزب المحافظين. وفى 8 يوليو الحالى قالت:«يجب ألا نصنف الناس إلى مؤيدين للانفصال عن الاتحاد الأوروبى وداعين للبقاء فيه الآن. أمامنا مهمة يجب القيام بها للوصول إلى أفضل اتفاق ممكن بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي.. وموقفى واضح بشأن تطبيق الخروج من الاتحاد الأوروبي». كما ستحاول أيضا توحيد صفوف البريطانيين. لكن حديث الوحدة سهل، بينما تطبيقه على الأرض صعب جدا كما ظهر فى الأشهر الأخيرة فى بريطانيا. أمام ماى إذن تحديات عديدة ومتشابكة وصعبة تأتى فى توقيت تواجه فيه بريطانيا الكثير من التحولات والتغييرات. فبريطانيا اليوم فى منعطف تاريخى حقيقى وهى قد تخرج أكثر قوة وتماسكا ورخاء إقتصاديا، لكنها قد تخرج أيضا أكثر فقرا، وأنغلاقا وغضبا. 7 معلومات عن تيريزا ماى «لا أحب البهرجة». قالت ماى عن نفسها عندما بدأت حملتها لخلافة ديفيد كاميرون بعد إعلان نيته الاستقالة فى أعقاب الاستفتاء «أعلم أنى لست من الساسة الذين يحبون البهرجة...أنا لا أتجول بالاستديوهات التليفزيونية ولا أثرثر عن الناس على الغداء. ولا أذهب للنميمة فى ردهات البرلمان. ولا أفصح عما يجيش بداخلى من مشاعر بل أعمل على إنجاز العمل المكلفة به». تلتزم بنظام غذائى وبرنامج رياضى صارم. ماى مصابة بالنوع الأول من داء السكرى وتحتاج للحقن بالإنسولين عدة مرات فى اليوم. وقال نائب من المحافظين عمل عن قرب معها إنها «تستيقظ مبكرا جدا. وتقضى فترة من الوقت فى قاعة التمرينات الرياضية لضمان المحافظة على قوامها لأنها تحتاج بالطبع للحفاظ على صحتها». تحب الطهو. تقول ماى إن لديها أكثر من 100 كتاب فى الطهو. وهى تعتبر الطهو طريقة لنسيان متاعب يوم طويل فى العمل. متدينة.. ماى مثل انجيلا ميركل أبنة رجل دين، علمها مبدأ «الخدمة العامة». وقد درست فى المدارس الحكومية، ثم نالت درجتها الجامعية من اكسفورد. تحب الأحذية الجميلة: لا تتردد ماى فى وضع طلاء أظافرها بألوان جذابة وبراقة أو ارتداء ملابس جميلة وأحذية فخمة. وتقول إنه ليس هناك أى تناقض بين أن تكون أنيقة وتقوم بعملها على أكمل وجه. تحب الموسيقى وفريق الموسيقى المفضل لها فريق «أبا» السويدى الشهير. خجولة ولا تحب المناسبات العامة وتفضل الخصوصية. تقول ماي: «لا أحب الخوض فى حياتى الشخصية. لم نرزق بأبناء أنا وزوجى وتعايشنا مع الأمر ومضينا قدما. أتمنى ألا يعتقد أحد أن ذلك أمر ذو أهمية. ما زال بإمكانى التعاطف مع الناس وفهمهم وأهتم بالعدالة ومنح الفرص».