تقوم الفكرة المحورية لهذا الملف على شهادات المفكرين والباحثين حيث طرحنا عددا من الأسئلة عن معنى الخطاب الدينى على عدد من الباحثين والمفكرين ومنها ماهية ملامحه، وماذا يحتاج العرب والمسلمون الآن: خطابا دينيا جديدا أم تطويرا للخطاب السائد؟ وهذه اسئلة الملف ما المقصود بمصطلح الخطاب، وهل يمكن تطبيقه على النص الدينى المقدس أو ينسحب فقط على النصوص الشارحة و? وهل ثمة خطاب دينى واحد شامل جامع أم أنها خطابات دينية تنطلق من منطلقات التاريخ والتأويل، فلا يصح أن نتكلم عن خطاب دينى بل خطابات متعددة بتعدد الازمنة والرؤى ؟ كيف تقرأ عملية الإصلاح الدينى وتجديد الفكر الإسلامى منذ محمد عبده فى مصر وخير الدين التونسى حتى الآن ، ولماذا لم تصبح تيارًا سائدًا فى الثقافة العربية؟ هل نحن بحاجة إلى تجديد خطاب راسخ بالمعنى الإصلاحى أم أننا بحاجة إلى خطاب جديد أو خطابات جديدة تنطلق من الافكار وعلاقتها بالواقع لا من الماضي؟ وكيف يمكننا ذلك: هل بإعادة قراءة النص أم بجعله ساحة للحوار وماهى قوانين اعادة القراءة ؟ ما هى الملامح الأساسية فى الخطاب الدينى السائد و التى تراها بحاجة إلى تجديد إن اتفقنا على تجديد الخطاب كحل مرحلي؟وما هى الملامح التى تفسد عملية تنجديد الخطاب اوانتاج خطاب جديد؟ ما هى العناصر المفقودة أو الفريضة الغائبة فى الخطاب الدينى السائد فى مصر والتى ترى أن وجودها أمر جوهرى فى أى خطاب دينى معاصر؟ هل يمكن للدين أن يكون أداة للتغيير الاجتماعى أم أنه بطبيعته التى تفرض إيقاعها يثبت الواقع؟ وهل ثمة تناقض فى دعوة الناس للتغيير بينما هو يسعى لتثبيت رؤاه؟ هل تجديد الخطاب أمر نخبوى لا يصح للعامة الحديث فيه بمنطق إلجام العوام أم أنه حديث جماهير يقود إلى دمقرطة الخطاب الديني، أم أن ذلك خطر على الدين والتجديد معا ؟ كيف ترى دور التصورات الشعبية للدين فى عملية أنسنة الفكر الدينى وتجديد الخطاب وهل اصبح محكوما على الاسلام بحتمية التحول الى الصوفية او الروحية كما يدعو البعض فى الغرب ؟ ماذا لم يشهد التاريخ الإسلامى تيارًا كبيرًا يمكن تسميته ب"لاهوت التحرير أو فقه التحرر" على غرار ما حدث فى أمريكا اللاتينية من مزج بين اللاهوت والماركسية على أيدى رجال الدين ؟ لم تنجح الفكرة الإصلاحية فى العالم العربى خاصة مع الإمام محمد عبده والمصلح الشهير خير الدين التونسى لأنها انطلقت من بُنَى تقليدية تستند للماضى فى مواجهة الحداثة. وكان هدفها الأساس الحفاظ على الهوية لا تغيير البنى الفكرية فى الفكر العربى والإسلامى ولذلك لم يكتب لها الدوام أو التأثير فى التيار العام. ومن أسف فإن الفكر العربى يعيد إنتاج القديم ولو بدلالات تحاول أن تكون جديدة ولكن البنى التى ينطلق على أساسها قديمة، تعمل على تثبيت الواقع وتعيد إنتاج الماضي... هكذا تحدثت الباحثة التونسية الدكتورة ناجية الوريمى أستاذة الحضارة العربيّة الإسلاميّة فى المعهد العالى للعلوم الإنسانيّة بالجامعة التونسية ، فى شهادتها بملف تجديدالخطاب الدينى .. الدكتورة الوريمي، تهتم بقراءة التراث وإشكاليّات التحديث. وقد صدر لها كتب مهمة فى هذا المجال منها "فى الائتلاف والاختلاف: ثنائيّة السائد والمهمّش فى الفكر العربى الإسلاميّ"، وكتاب "حفريّات فى الخطاب الخلدونيّ: الأصول السلفيّة ووهم الحداثة العربيّة" ، وكتاب "الإسلام الخارجي"، الذى صدر ضمن سلسلة الإسلام واحدا ومتعدّدا. والكتب الثلاثة من الأهمية بمكان وتستحق أن نفرد لها حوارات خاصة مع الباحثة التونسية لا سيما وأننا نقدمها للقارىء المصرى للمرة الأولى ولكن المشاركة فى ملف "تجديد الخطاب الديني" يجعلنا نرجىء التقديم الحقيقى والشامل لأفكار الوريمى إلى فرصة أخرى. فى مداخلتها أو إجاباتها على أسئلة الملف ركزت الدكتورة ناجية الوريمى على تعريف مصطلح الخطاب ما المقصود بمصطلح الخطاب، وهل يمكن تطبيقه على النص الدينى المقدس أو أنه ينسحب فقط على النصوص الشارحة والتفاسير؟ من الصعب ضبط مفهوم واحد ودقيق للخطاب نظرا لاتّساع نطاق الدراسات المهتمّة به، واختلاف الحقول المعرفيّة التى ينتمى إليها. وسنكتفى فيما يلى بتقديم نماذج من التعريفات التى ضُبِطت لهذا المصطلح، والتى تخدم من قريب السؤال المطروح. منها أنّ الخطاب رسالة يَفترِض لها منتجها متلقّيا، والغايةُ منها إحداث أثر ما فى هذا المتلقّى . ومنها أنّها مجموعة من المكوّنات اللغويّة الخاضعة لذات النظام. وأنّها مجموعة متعدّدة من المكوَّنات.. (تنتظم) وفق ما تقتضيه ظروف إنتاجه . الخطاب إذن هو فعل لغوى ينتج عنه نصٌّ un texte، ويؤطّره سِياقٌ un contexte ، ويوجّهه قصْدٌ une intention. فهو وحدة معقَّدة ذات أبعاد متعدّدة: بُعد أَلْسُنيّ باعتباره نصّا، وبُعد اجتماعى باعتباره منتَجا فى سياق معيّن، وبُعد تواصُليّ باعتباره تفاعلا هادفا. ونجد اللسانيّين ينطلقون من حقيقة كون النصّ "حدثا تواصليّا" ليحدّدوا المعايير المؤسّسة له، وهي: الانصهار الذى يعكسه الترابط بين الجمل وتمثّله وحدة النصّ، والانسجام بين الأطراف المشاركة فى حدث التواصل والقصد، بمعنى أنّ الباثّ يقصد إنتاج نصّ من شأنه أن يؤثّر تأثيرا محدّدا فى المتقبّل، والمقبوليّة وهى أنّ المتقبّل يعزم على تفسير نصّ وتأويله . الخطاب إذن مفهوم ينطبق على كلّ النصوص بما فى ذلك النص الدينى المقدّس، لكن مع خصوصيّة أساسيّة تميّزه من حيث أطراف التواصل. وهذه الخصوصيّة لا تمسّ من حقيقته الألسنيّة، فهمًا وقراءةً وتأويلًا. *وهل هناك خطاب دينى واحد شامل جامع أم أنها خطابات دينية حتى فى الدين الواحد تنطلق من منطلقات التاريخ والتأويل، فلا يصح أن نتكلم عن خطاب دينى بل خطابات؟ عندما نتحدّث عن خطابات هى نتيجةٌ لعمليّات تأويل مختلفة للنصّ الدينيّ، لا يمكن ألّا نتحدّث عن تاريخيّة هذه التأويلات. وهنا نجد أنفسنا بالضرورة فى حاجّة ماسّة إلى التأويليّة Herméneutique وهى ليست "تطوير طريقة للفهم، بل هى شرح للظروف التى يجرى فيها الفهم" . وعلى هذا الأساس يكون "دور التأويليّة توضيح حقيقة التاريخ فى صلب الفهم فى حدّ ذاته.. والفهم هو فى جوهره ظاهرة تندرج فى إطار هذا التاريخ"، كما يقول فلاسفة الخطاب. كلّ خطاب دينيّ إذن هو فهمٌ ما للنصّ ونتيجةٌ لعمليّة تأويل مؤطّرة بظروف معيّنة وبأهداف محدّدة، لأنّ "الاعتقاد فى إمكان تجاوز الذات فى عمليّة الفهم، ينمّ عن سذاجة الموضوعيّة التاريخيّة" . وعلى هذا الأساس نحن نتعامل مع خطابات دينيّة "تاريخيّة"، لكنّ الإشكال هو أنّها لا تقدّم نفسها على هذا الأساس، بل إنّ كلاّ منها يقدّم نفسه على أنّه مطلق والوحيد الذى يمثّل الدين الصحيح ويمتلك الحقيقة. وإزاء هذا الإقصاء المتبادَل يصعب جدّا أن نبنى جسور تواصل خلاّق بين مختلف هذه الخطابات. نحن والحداثة كيف تقرأين عملية الإصلاح الدينى وتجديد الفكر الإسلامى منذ محمد عبده فى مصر وخير الدين التونسى حتى الآن ، ولماذا لم تصبح تيارا سائدا فى الثقافة المصرية؟ فى الحقيقة أنا لديّ موقف خاصّ من عمليّة الإصلاح الدينى وتجديد الفكر الإسلامى فى عصر النهضة وبعده. هذه العمليّة لا يمكن أن نضعها فى موضعها الصحيح إلاّ إذا ما استحضرنا "تاريخيّتها". لقد كان محمّد عبده وخير الدين وغيرهما.. يواجهون تحدّيا على مستويين: الأوّل هو إصلاح الأوضاع الداخليّة فى العالم الإسلامى عن طريق إيجاد خطاب دينيّ تنويريّ يتماشى ومقتضيات الحداثة من ناحية ويجد حسن القبول لدى جمهور المتلقّين من ناحية ثانية على أساس "مخاطبة القوم بما يفهمون". فاستعملوا جهازا اصطلاحيّا إسلاميّا "تقليديّا" لتقريب دلالات ومفاهيم غربيّة من الأفهام. وتَمثّل هذا الجمهورُ هذه المفاهيمَ الغربيّة الجديدة تمثّلا لم يغادر الأفق الفكريّ التقليديّ، ولم تحدُث رجّةُ التغيير المطلوب وإبداع الجديد. وماذا عن المستوى الثانى من التحدى للفكر الاصلاحى ؟ المستوى الثانى من التحدّى هو الدفاع عن الذات وعن الهويّة فى ظرفيّة استعماريّة اتّضحت معالمها بعدُ وما فتئت تتصاعد. ومن المعلوم أنّ الاختيارات الصادرة عن آليّة الدفاع عن ذات متأزّمة فى الحاضر، مهدّدة من طرف خارجيّ، تكاد تنحصر فى توظيف مكثّف للماضى بعد أن تحوّل فى المخيال الجماعيّ إلى جنّة مفقودة. فيقع استحضاره لمواجهة التهديد المباشر، ولإثبات ندّيّة "موهومة"، جلّ مرتكزاتها ماضويّةٌ. ومن هنا لم تعتن تلك الاختيارات بمسألة النقد والمراجعة الجذريّة للماضى وللتراث، ولا بمسألة البناء الشامل والمتناسق بين مكوّنات الثقافة البديلة المقدَّمة. وهذا ما أوقع الفكر العربيّ منذ ذلك العصر إلى الآن فى مآزق لا تزال عنوانًا من عناوين أزمته. فالكثير من المفاهيم التى أحياها هؤلاء المصلحون –دون نقدها- هى متنافرة فيما بينها أوّلا، وليست قادرة "إبستمولوجيّا" على توفير الشرط الفلسفيّ للمعرفة الحداثيّة وهو عدم الارتهان –قياسا واتّباعا- بنموذج ماض، ثانيا. بل إنّ البعض منها لا يعمل إلاّ على إعادة إنتاج دلالات قديمة لا تعدو كونها استمرارا لعوامل التسلّط ونفى العقل وسلب الحرّيّات. لذلك فإنّ الخطاب الذى أسّسه هؤلاء المصلحون، لا يخلو من التوظيف الإيديولوجيّ للتراث. وقد آن الآوان -إن لم يكن قد فات- لدعم ما فتئ الخطاب الدينيّ المعاصر ينجزه من مهمّة نقد التراث وتشريحه. وأريد هنا أن أقف بسرعة عند مسألة العلاقة بين الحداثة والتراث أو الحداثة والماضى عموما، لأنّها محفوفة بعديد المزالق وسوء الفهم. بالنسبة إلى الحداثة أنا لا أتعامل معها على أساس حضاريّ مخصوص، غربيّة أو عربيّة أو غيرهما، بل على أساس المفهوم المبدئيّ للحداثة عموما وهو كونها "رفضا للديمومة"، وعدم ارتهان بالماضي، و"بحثا عن الجديد والمستحدث". وباختصار هى "سنّة الجديد". والحداثة من هذا المنظور ليست إلغاء للماضى وقطعا معه، لأنّ الماضى هو رصيد ثقافيّ وحصيلة تجربة إنسانيّة اتّخذا فى كلّ مرحلة تاريخيّة خصائص معيّنة وأدّيا وظائف محدّدة. بل القطيعة اللازمة لفعل التحديث هى مع دور النموذج والمعيار الذى يريد الماضى أن يؤدّيه، ومع اللازمنى والمتكرّر والدائم، وليس مع الماضى فى حدّ ذاته. إنّ الماضى يستمرّ فى الوعى الجماعى بطريقة تناظر استمرار اللاشعورى الفرديّ فى الشعور. وكلّ حداثة تقيم حوارًا مع ماضيها. ومن هنا وجب الاستحضار النقديّ للتراث وليس التجميل أو التقديس والاجترار. وهذا ما تقدّم فيه بخطى ثابتة اليوم مفكّرون عديدون، من أبرزهم الفقيد العزيز نصر حامد أبو زيد. التقريب هل يمكن أن نتكلم عن استئناف توحيد المذاهب أو التقريب بينها كما فعلت لجنة الأزهر برئاسة الشيخ شلتوت رحمه الله فى الستينيات من القرن الماضى بهدف ردم الهوة بين المذاهب ، وهل من الممكن التقريب بين الخطابات الدينية المنطلقة من أسس مذهبية ؟ هنا تثار بالضرورة مسألة المفهوم الذى نضبطه للتسامح. فهو إمّا أن يكون ضربا من "عقلنة" ظاهرة الاختلاف، وسعيا إلى توفير شروط التعايش السلميّ عبر الحوار الذى يُعدّ اعترافا متبادلا بين الذوات المتحاورة . وهو ما يعنى تنسيب المواقف والرؤى المذهبيّة، أى تنسيب "الحقيقة" التى يدّعى كلّ طرف امتلاكها وتمثيلها. وهذا هو التسامح المثمر والمتماشى مع قيم الحداثة. أو أن يكون مجرّد استراتيجية متّبعة من قبل القائمين على المذاهب لدَرء "الفتنة" والاختلاف وتجنّب نتائجهما الوخيمة. فهى ليست صادرة عن اعتراف مبدئيّ بالتعدّديّة ومقتضياتها، بقدر ما هى صادرة عن حرص على تحقيق الاستقرار الاجتماعى والسياسيّ. إنّها استراتيجية "التحَمُّل عن مضض" للآخر المختلف، مع الثبات دائما على اعتباره مخطئا فى رؤاه واختياراته. ولذلك فهى لا تعدو أن تكون دعوة إلى "التعايش فى نطاق اللاتسامح" . مع ما يمكن أن يفضى إليه من عدم الاكتراث بهذا الآخر، وهو ما ينتهى إلى ضرب من الاحتقار، وفى أحسن الحالات، إلى ضرب من عدم الاعتبار. وفى ضوء هذين المفهومين للتسامح يمكن أن نقيّم بسهولة المبادرة التى قامت بها لجنة الأزهر فى الستّينيات. إنّها كسائر المبادرات التى تقوم بها مؤسّسات "تقليديّة" تستند إلى مرجعيّة مذهبيّة واضحة، هى المرجعيّة ذاتها التى تمنعها من الاعتراف بنسبيّة الحقيقة التى تمثّلها وبحقّ الآخر المختلف فى وجود متساوى الحظوظ. الخطاب والدولة هل من المنطقى أن تنطلق الدعوة لتجديد الخطاب الدينى من رأس السلطة السياسية، وهل هذا من مصلحة الدعوة للتجديد أم أنّ ذلك يلقى بضغط عليها يجعلها أسيرة تصورات الدولة أو السلطة السياسية لمنطق الدين وتفسيره ؟ القضيّة هنا قضيّة نجاعة فى المستوى الواقعي. السياسة فى نهاية المطاف هى ما يهمّ الشأن العامّ. وليكون الإصلاح ناجعا لا بدّ أن يكون شأنا عامّا أى شأنا سياسيّا. وصرفُ النظر عن دور الدولة فى هذا الصدد هو رضا بأن يكون الإصلاح حديثَ الصالونات واهتمامَ النخبة المثقّفة ليس غير. ويجب أن لا ننطلق دائما من مسلّمة أن تدخّل السلطة غير مرغوب فيه. لأنّها عندما تكون مستنيرة، تضمن كلّ فعل ثقافيّ تجديديّ وتنويريّ. ولكن هل يمكن للدين أن يكون أداة للتغيير الاجتماعى أم أنّه بطبيعته التى تفرض إيقاعها يثبّت الواقع، وهل ثمة تناقض فى دعوة الناس للتغيير بينما هو يسعى لتثبيت رؤاه؟ ينبغى أن نتّفق حول فهمنا للدين: هل هو مجرّد أحكام وتشريعات ينبغى أن تُطبّق كيفما كان الأمر؟ أى دون اعتبار دواعى تلك الأحكام و"أسباب نزول" الآيات المتعلّقة بها؟ أم هو قيمٌ ومقاصد سامية ودعوة إلى الخير المطلق؟ الفهم الأوّل يختزل الدين فى منظومة "تثبّت الواقع" كما ذكرتَ. وتثبيتها هذا سيخلق إشكاليّات عديدة لأنّ الحديث عن ثبات فى الواقع وفى التاريخ كلام لا معنى له، وتجديف ضدّ التيّار. بينما الفهم الثانى للدين يساير الواقع ويعمل على تحسينه وتوجيهه نحو قيم العدالة والخير والتسامح. إذن فمسألة التغيير من عدمه ليست متّصلة "بطبيعة" الدين كما ذكرت، بل بفهمنا له. وكلّ القراءات التجديديّة المعاصرة هى تكريس للفهم التاريخيّ للدين وللتعامل معه. هل الخطاب الدينى الإسلامى هو المطالب فقط بالتغيير أم أن الخطاب الدينى المسيحى وقد بدأ يبرز بقوة فى الآونة الأخيرة على المشهد السياسى بحاجة إلى تغيير أيضا؟ الأصوليّة ليست خاصيّة "إسلاميّة"، هى خاصيّة عقديّة عامّة قائمة على آليّات إيديولوجيّة مشتركة منخرطة فى ذات التصوّر المتعالى للهويّة بما هى معطى ثابت وجوهريّ لا يمكن أن يستقيم أمره إلاّ بالقضاء على المغاير "المهدّد له"، أو -فى أحسن الحالات- إبعاده والحطّ من شأنه لأنّه لا يعدو صفة العدوّ. وعلى هذا الأساس فإنّ الأصوليّات عديدة ومن بينها الأصوليّة المسيحيّة. ولعلّ أحسن خطاب يمثّلها خطاب صامويل فليبس هنتنغتون الخبير السياسيّ وأستاذ العلوم السياسية فى جامعات أمريكا وصاحب نظريّة صدام الحضارات. إنّه يبرّر العداء للآخر المختلف عنه بأفضليّة جوهريّة لمقوّمات الذات التى يُعَدّ فيها الدين المسيحى مقوّما جوهريّا. بل إنّ الاعتداد بالذات والإحساس بقيمتها والتعلّق بها، أمور لا يمكن أن تحصل إلاّ إذا ما كان هناك شعور بالكره إزاء الآخر المختلف.فهو القائل: "لا يمكن أن يكون هناك أصدقاء حقيقيّون دون أعداء حقيقيّين. إن لم نكره ما ليس نحن، فلن يمكننا أن نحبّ ما هو نحن" . والقائل: "فنحن لا نعرف من نكون إلاّ عندما نعرف من ليس نحن، وذلك يتمّ غالبا عندما نعرف: نحن ضدّ من؟" على هذا الأساس يغدو الآخر "عدوّا ضروريّا" فى نظره. وهذا معنى الصدام. إنّ الخطابات الأصوليّة المتطرّفة إسلاميّة ومسيحيّة وغيرها- تنتمى إلى ذات البنية الذهنيّة، وهى بنية العقل الأصوليّ الرافض للاختلاف والتعدّد، والساعى إلى فرض منطلقاته المتفرّدة ب"الحقيقة" فى نظره. وتتمثّل مقوّماته فى ما يلي:: -أفضلية مطلقة "للأنا" وتحقير المختلف ضرورة معاداة "الآخر" ومحاربته لتحقيق الوجود المثالى "للأنا" -التشبّث الإشكالى بماض "نموذجيّ" متخيّل، يجسّده تراث دينيّ يجب أن يُفرض على الجميع. يرى الباحث السودانى عبد الله النعيم أن علمانية الدولة فريضة إسلامية تحرر الدين من تبعية تصور الدولة وتجعله وسيلة لتحرر الإنسان وصدقيته مع نفسه، كيف ترين العلمانية : هل هى حجر أساس فى مشروع التجديد أم عامل مكمل، وهل ترينها تتعارض مع فكرة الدين؟ لابدّ فى البداية من توضيح يهمّ مفهوم العلمانيّة. إنّها لا تتعارض مع الدين، وهى ليست إلغاء له، بل هى فصل له عن الدولة. أوّلا لتخليصه من براثن التوظيف السياسيّ، وثانيا لأنّ الاعتقاد عموما مسألة شخصيّة وليس مسألة سياسيّة. فالعلاقة بين العبد وربّه لا تمرّ عبر السلطة، بل هى مباشرة ودون وسائط أو محدّدات تخرج عن حرّيّة الضمير. وجوهر العمل النقديّ الذى تقوم به القراءات الحديثة للتراث الدينيّ فقهًا وتفسيرًا وكلامًا (أى علم الكلام) وغيرها.. هو الكشف عن أوجه التوظيف التى أخضِع فيها الدين لتحقيق أهداف لا علاقة لها بجوهره القيميّ السامي. السياسة لها منطقها المصلحيّ المتحوّل أبدا بتحوّل المصالح، والدين له منطقه المقاصديّ والقيمى الثابت.