دلَّعها فى الغِيارات.. وريَّحَها عالمطبات تعمل حسابي أقدَّرك تهزر معايا أعوَّرك لم يكن يخطر على بال الدكتور «سيد عويس» عالم الاجتماع الراحل حين أصدر كتابه «هتاف الصامتين .. ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات فى المجتمع المصرى المعاصر» (1970)، أن وسيلة جديدة اسمها « التوك توك» ستظهر بعد أربعين عاما تقريبا، وستغزو أنحاء مصر لتصبح الأكثر انتشارا، وأنها ستُشيع شعارات مختلفة جذريا، حد التناقض، عن تلك التي رصدها أواخر الستينيات وأول سبعينيات القرن العشرين. وكما فارق المجتمع أمانه الاقتصادي، وتحللَّت منظومات قيمه، خَلَت الشعارات من مضامينها الرصينة، إلى تهاويم الانحدار والتردي. الحلوة لما تتدلع.. تِخلِّى الأسفلت يولَّع ما تبُصش لموتورها.. لا الزيت يقف في زورها كان مُلاَّك المركبات في مصر الستينيات، يضعون مُصحفاً، أو إنجيلاً، صغير الحجم في سياراتهم، أو يُعلِّقُون في مرآة المنتصف «خمسة وخميسة»، و«مسبحة»، أو«حِجابا»، أو بعض «سنابل القمح» أو «دُمىً» أو «حدوة حصان»، للتبرك، والتيمن، واتقاء الحسد، كصِيَغِ رمزية للإيمان، وطلب الرزق، وخشية المجهول، لكن راكب «التكاتك» الآن لا يجد غير سمَّاعات قاسية تصمُّ الآذان، وغناء هابط لا يظهر منه سوى صخبه. يمكننا تخيل حجم الظاهرة فائقة الانتشار، إذا أدركنا أن مصر دخلها حتى الآن أكثر من ثمانية ملايين «توكتوك»، وفق تقديرات غير رسمية، والرقم لا يحمل أية مبالغة حسب المشاهدة المباشرة لأي شارع في جميع مدن وقرى مصر، وأعرف يقينا أن مئات منها في كل قرية بالدلتا الآن، وتتزايد باطراد لافت، فإن عرفنا أن عدد القرى، في الدلتا والصعيد، حوالي خمسة آلاف، وتوابعها من العزب والكفور والنجوع أكثر من عشرين ألفا، وعمرانها اتسع عشرات أضعاف حجمه في الستينيات، يجعلنا نصدق الرقم بسهولة، وربما كان أكبر من هذا، خاصة أن الامتدادات العشوائية في المدن الإقليمية، وعواصم المحافظات، بلغت حد الاكتظاظ، والدولة في سُباتٍ عميق. يا تْهَدِّي يا تْعَدِّي تركب أسليك.. تنزل أولَّع فيك وفي إحصاء رسمي عام 2014 أُعلن أن 74 ألف «توك توك»، من إجمالي الثمانية ملايين، هي المُرخصة فقط، والحكومة التي تسمح باستيرادها بغزارة، تلاحقها في كل مكان، وبعض الحملات المرورية تصادرها، وتضيع لأنها «أشياء بلا أوراق»، حيث لا يستطيع أصحابها إثبات أي شىء ضد أفراد السلطة الذين صادروها، ويمكنهم بيعها في الخفاء لآخرين من محافظات أخرى، وتتجلى المأساة إذا عرفنا أن ثمن «التوكتوك» وصل إلى ثلاثين ألف جنيه، وربما أكثر في بعض المحافظات، وأغلب الناس يشترونه بأقساط مؤلمة نظرا لضعف قدراتهم، والمركبة الواحدة منها تعمل ثلاث ورديات (شِفتات)، أى تفتح ثلاثة بيوت، ما يفيد بأن المصادرة هذه تؤدي إلى مآسٍ اجتماعية. متقولش دى بكام.. دى جَاَيَهْ بدهب المدام ما تبصش كده يا عبيط.. الحلوة دي بالتقسيط في «هتاف الصامتين» رصد «عُويس» في بحثه الميدانى أن الناس كتبوا على مركباتهم عبارات كلها لطيفة وموحية، من الأغاني السائدة، ووفقا لمستوى الوعي حينها، وسلامة الوجدان العام، منها «أبو سمرة السكرة»، و«اتمخطرى واتمايلى يا زينة»، وتصدرت أغاني «أم كلثوم » مثل «أروح لمين»، و«اسأل روحك اسأل قلبك قبل ما تسأل إيه حيرني»، و«طوف وشوف»، و«أكثر من مرة عاتبتك واديت لك وقت تفكر»، و«بتبص لى كده ليه»، وكذا حليم وغيره من المغنين، مثل «سواح وماشى فى البلاد سواح»، و«سوق على مهلك»، و«فوق الشوك مشانى زماني»، و«م الموسكى لسوق الحميدية»، وتعبيرات شعبية، مثل «آخر طريقك فين؟» و«حلوة صلاة النبي» و«خليها على الله»، و«ما تبصليش بعين ردّية وبصّ للى اندفع فيّه»، إضافة لآيات قرآنية وإنجيلية، ما دفع «سيد عويس» للتشديد على ضرورة تمعن هتافات الصامتين الذين اختاروا أسلوباً سلميا للتعبير عن مطالبهم وأحلامهم، مع أن الدولة وقتها كانت تهتم بالتعليم والصحة والقطاع العام، وتراقب الأسعار، وتوفر المرافق، بعكس الحاصل تماما الآن من التخلي عن مساندة الفقراء. إحسدوني.. لما أسد ديوني 3 عجلات برفارفهم.. نازلين يجيبوا مصاريفهم والشاهد أن «التوكتوك» ساهم بشكل واسع في حل أزمة المواصلات بآلاف القرى، والمدن الصغيرة، وفي الاسكندرية، والقاهرة التي تضم وحدها أكثر من ستين منطقة عشوائية امتدت بطيش في جميع الاتجاهات وأحاطت بالعاصمة كالسُوَار المُحكم، وكذا ساعد بوضوح على تخفيف حِدَّة البطالة بين الشباب، وعُمَّال القطاع العام المُسرَّحين، والمتبطلين، وحل مشكلة التنقل في القرى المصرية بعد توسعها العمراني الكبير، لقدرته الكبيرة على التسلل إلى الشوارع الضيقة، والمناطق النائية، وتسهيل حياة الملايين يوميا من الكادحين، وبالمقابل فاقمت أزمات المرور لأنها تتحرك كالصراصير، وتخنق شوارع العشوائيات، وباتت المُشادات بين سائقي «التكاتك والميكروباصات» مشهدا اعتياديا، واستخدمها قلة من المنحرفين في ارتكاب جرائم فردية هنا أو هناك. الرجولة ملهاش قطع غيار حبيتها وقعدنا نُلكلُك.. أتاريها طمعانة فى التوك توك فماذا لو كان «عُويس» بيننا الآن ورأى هذه الشعارات، التي أحالت «هتاف الصامتين» الموحي، إلى «هتاف الصاخبين» المُوحل.