مرت الذكري الحادية والخمسون لرحيل أستاذي الجليل, شيخ نقاد مصر الدكتور محمد مندور, ومازال حضوره ملء وجودي بسلطان منظومة قيمه وازدهارها, أستاذا متألقا علما وحضورا, وفارسا مناضلا في طليعة الحركة الوطنية المصرية, لم يشكل تكرار سجنه مرات عديدة رادعا ليكف عن نضاله بكتاباته, دفاعا عن حقوق وطنه المغتالة, وشحذا لآمال الوطن المغدورة, وأيضا لأنه لم يتورط إنسانيا ضد أستاذه د. طه حسين, عندما مارس حصاره له بسبب عودته من بعثته دون حصوله علي الدكتوراه; فإذ به وفقا لجوهره الأخلاقي يتجاوز قهر أستاذه, عابرا مرتحلا إلي ممكنات اقتداره وتفوقه, فأنهي رسالة الدكتوراه خلال تسعة أشهر, ثم رفض أستاذه د. طه حسين بعد حصوله علي الدكتوراه الموافقة علي استحقاقه الترقية, وبمعاودة أستاذه محاصرته بإكراهاته وتهديداته, ورفضه المتعالي لاستحقاقاته, تبدي الأمر أنه محض تسلط لاستيلاء متماد علي مستقبله بإقصائه, وليس أمرا عارضا وعابرا; بل قطيعة معلنة وحاسمة, صارت معها وعود المستقبل هي مآسي الحاضر, ولأن الراحل الجليل يمتلك تكوينا ذاتيا أخلاقيا, يعقلن ممارساته اعتدالا وتوازنا, يتجلي في إرادة شجاعة تختار وترفض ولا تقبل خضوعا; لذا كان خيار خياراته أن تقدم باستقالته من الجامعة, ثم أصدر كتابه في الميزان الجديد تحمل صفحة الإهداء منه بوحا يقينيا بمشاعره لأستاذه د. طه حسين, اعترافا بالجميل الذي لا يستطيع نسيانه, وإقرارا بعمق إحساسه أنه جد قريب إلي نفسه, علي الرغم مما قد يختلفان فيه من تفاصيل. تري ألا يعني ذلك الإقرار أن ثمة إصرارا علي تواصل إنساني حر لا تعترضه العقبات والمعوقات, يقبل الاختلاف ولا يحوله إلي قطيعة؟ كان رهان شيخي ممارسة الكتابة تعبيرا عن أفكاره وآرائه, فشق طريقه بتوجه مفعم بالتجدد المعرفي, متابعا الجسور الثقافية لشبكة الوجود الاجتماعي المصري, دفعا إلي الاجتهاد في التفكير, ووعيا بالمتغيرات في الأدب والفن والنقد والفكر والسياسة, تشخيصا وتحليلا وتثمينا; لذا تربع الراحل الجليل علي منصة النقد, ومنحه نقاد مصر لقب شيخ النقاد, ثم غادر الراحل عالمنا وقد شيد فكريا مراحل رحلته في سجل تتابعها فتبدت في ثلاثين كتابا. ما زال شيخي ملء وجودي أيضا; لأنه كان يحرص علي رعاية الازدهار, وتجديد الأمل, والتسامح; لذا لم يقصني أو يحرمني من استحقاقي عندما خضعت يوما لضلالات السلوك, إذ عندما راح شيخي يناقش ويقر لزملائي, الموضوعات التي اختاروها لرسائل تخرجهم, كنت منتشيا باختياري, متطلعا إلي المأمول والمنتظر بموافقته علي موضوع أعددت خطته ومراجعه; فإذ به يباغتني ويفرض علي تحديدا موضوعا مغايرا, فأصابتني المفاجأة باهتزاز ذهني, وتعسرت آليات مكاشفته برأيي, واستفقت علي الهلع خوفا من الفخ الذي أقع فيه إذا أخبرت شيخي باختياري, فرفض الموافقة عليه; عندئذ سأكون أسيرا لما لم أختره, لحظتها تشظت نفسي فتخطت الحدود وتعدتها إلي المجهول; فاخترقتني فكرة غاشية دفعتني إلي ضلال السلوك; إذ قررت ألا أخبر شيخي بشيء, وأن أستمر في العمل سرا علي الموضوع الذي اخترته حتي يوم المناقشة. حان موعد أن أقرأ علي شيخي ما أنجزت قبل المناقشة العلنية, فسألني عن الموضوع الذي طرحه علي, فأجبته بأنه قد تعذر علي لأني لم أختره, فلم يعلق وتابعت القراءة حتي انتهيت. داهمتني وأنا في انتظار المناقشة العلنية من اللجنة التي كانت برئاسته نزعات واحتمالات, وهواجس متنوعة تناسلت لتصب في معني واحد; هو أن السلطة مرتبطة بالقدرة علي العقاب, لكن ما إن بدأ شيخي حديثه حتي تغير وجه الدنيا, ولو رمت الإفاضة في تفنيداته وإغداقاته العلمية علي الرسالة ما استطعت خجلا. وبعد أيام من المناقشة نشر شيخي مقالا في صحيفة الجمهورية بعنوان الجيل الصاعد يصحح المفاهيم, طارحا شرحا تفصيليا للرسالة, مشيرا إلي ما تضمنته من تصحيح لمفاهيم أدبية وفنية, ومن لحظتها غدا مقال شيخي الجائزة الأولي والأخيرة في حياتي, سعيت إليه مهرولا لأشكره, فاستقبلني باسما مهنئا, ثم راح يلقني درس عمري إذ أفهمني أن ما فعلته ليس بحرية; وإنما هو محض انفلات انحدر بي إلي عطب ذاتي, أفقدني مسار المسئولية والخيار الأخلاقي, فاعتذرت له متوسلا بثقل ضغوط التصورات التي داهمتني وسكنتني, فعاود شيخي ينبهني أنني صانع تلك الأوهام; إذ أبطلت الحوار معه, ولم أصارحه برأيي, وتوهمت أشياء لا تستند إلي الحقيقة. سعدت برفقة شيخي داخل قاعات المحاضرات وخارجها; إذ كان يغدق علي برؤاه الساطعة في كل جوانب الحياة بانفتاح كيانه فيضا, ليشغل عقلي بجني المعارف, محذرا إياي بأن المعرفة ليست احتيازا, ولكنها كشف يمنح حس الاقتدار لفهم معطيات العالم, وإدراك الحقائق, وأن غياب المعرفة يرسخ الضعف; بل يجعل الشر ممكنا, ويعاود شيخي تحذيره من أن يتحول حس الاقتدار إلي تسلط يسلب حريات الآخرين, أو يتقاعس دفاعا عن الحق العام. كانت لنا لقاءات انفرادية تتسم بالتلقائية والتنوع, من تساؤلات ونقاشات, وإفضاءات, وأيضا مشاغبات ومعاتبات, وقد عاتبني عندما سألني عن مسرحية شاهدتها, فرحت أطرح عليه دلالات نقصها وعجزها, لافتقارها إلي قواعد الكتابة المسرحية, فإذ به يتعجب متسائلا: هل أنت تذهب إلي المسرح مدججا بالسلاح لتفتش عن القواعد؟ فشاغبته لاعتباره مسرح اللا معقول ظاهرة شاذة, لأنه لا يلتزم بقواعد المسرح, فأجابني: بل لأنه تمرد يائس علي الأدب والفن, وقد تحلل من العقل والفكر, واستطرد قائلا: عليك أن تنفتح وتعرض صفحة روحك للعمل الذي تشاهده; فإذا ما داهمك, وجذبك عبر مداهمته, ولمس بوهجه منك الروح, عليك عندئذ أن تبحث تحليليا عما يطرحه وكان السبب في مداهمته لك, ولا تحبس نفسك من البداية في معطيات جاهزة. وظل شيخي في حياتي لقيا رائعة. وبعد رحيله إذ بالرسالة المرتبطة بذكري التباساتها معه, تصدر عن المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب كتابا بعنوان المفهوم التراجيدي والدراما الحديثة, يحمل إهدائي إلي روح أستاذي د. محمد مندور, اعترافا بالحب والفضل اللذين حباني بهما طالبا ومعيدا. سلام عليك يا شيخي في ذكري رحيلك, فما زال حضورك ملء وجودي. لمزيد من مقالات د.فوزي فهمي