تفاوت رد فعل الناس إزاء تسريبات امتحانات الثانوية العامة، ما بين الغضب الشديد إلى التجاهل الغريب، فمن كل صوب وحدب تباينت صيحات الاستهجان لتلك الصدمة التى أدمت قلوب الطامحين لمستقبل مشرق استلزم منهم جهودا مضنية لتحقيق نتائج إيجابية توفر لهم مكاناً لائقاً فى كليات القمة. فعلى مر سنوات كثيرة مضت شهدت أروقة بعض لجان الامتحانات حالات من الغش وصلت فى بعض الأحايين إلى فجاجة عجيبة، كما حدث فى إحدى اللجان عندما قام الأهالى بالحصول على ورقة الامتحان وإعطاء أبنائهم الإجابة عن طريق مكبرات الصوت من أمام اللجنة، فى مشهد مستفز أكد وجود خلل فى طريقة تفكير البعض الذى يعتبر الغش «فهلوة»، ورغم توقف العديد من الخبراء أمام هذه الظاهرة، إلا أن الأمر مر بكل سلاسة، حيث لم نشاهد رد الفعل المناسب من الدولة تجاه ماحدث حتى لا يتكرر. مما يعنى أن محاولات الغش ليست وليدة هذا العام ولكنها وليدة سنين بعيدة، حاول من خلالها بعض العناصر الفاسدة سرقة حقوق الغير من الطلبة المتفوقين بكل يسر وطمأنينة وبضمير مستريح، اعتبروا الغش حقا مكتسبا، وتجاوز الأمر المنطق و أصبح هناك لجان لأولاد «الكبار» فى مناطق معينة يحصل فيها هؤلاء على أعلى الدرجات “ بالغش”، والأكثر غرابة أن يربى هؤلاء “الكبار” أولادهم بهذه الطريقة الفاسدة، متصورين أن نفوذهم يعطى لهم الحق فى فعل ما يريدون. كانت هذه الأمور تحدث على استحياء «الغش»، ورويداً رويدا تطورت منظومة الغش مع التقدم التكنولوجى الكبير، حتى شاهدنا تسريبات هذا العام غير مسبوقة على الإطلاق ليصاب قطاع كبير من الطلبة بالإحباط ، بعد عناء عام كامل من الجهد، و دروس خصوصية كبدت أسرهم أموالا لا طاقة لهم بها، يشاهدون غيرهم يسرق كفاحهم هذا “بالغش”، وبعيدا عن فشل منظومة التعليم الذى يلخص مرحلة التعليم قبل الجامعى فى أقل من ثلاثين يوماً هى فترة امتحانات الثانوية العامة، و اعتبروا كل السنوات السابقة للصف الثالث الثانوى سنوات غير ذى جدوى، فأهملنا الاهتمام بها وتركنا طلبتها يلعبون، وباتت تنمية قدرات هؤلاء الطلبة مسئولية أسرهم، بعد أن تحولت الغالبية العظمى من المدارس لساحات للتسلية فقط، وهذا ما يفسر لنا احتلال مصر وبلا منازع المركز قبل الأخير على مستوى 140 دولة فى العالم فى جودة التعليم، ورغم هذا رأينا تصريحات لوزير التربية والتعليم تؤكد أن جودة التعليم المصرى هى الأعلى والأفضل وأنها تنافس أكثر دول العالم تقدماً! ولأننا أهملنا التعليم واعتبرناه رفاهة لا ضرورة لها فى السابق، تفشت ظواهر سلبية كانت كفيلة بتركنا قطار التقدم، وارتفع معدل الفساد بدرجة مخيفة، ولعب “الغشاشون” دوراً مؤلماً فيما وصل إليه المجتمع من تخلف. فى السياق ذاته ألقى الضوء على نموذجين يوضحان ما سبق الإشارة إليه، الأول، منذ فترة قريبة لظروف سوق الصرف ارتفع سعر الدولار مقابل الجنيه بدرجة واضحة لما يعادل 14% تقريبا، وهذا الأمر كان كفيل بارتفاع أسعار الكثير من المنتجات بشكل واضح، ولكن هذا الكلام ينطبق على السلع التى سيتم استيرادها أو التى سيتم الاتفاق عليها بعد الارتفاع، لكن أن يرفع التجار الأسعار فور ارتفاع سعر الدولار دون مبرر وفى حماية الدولة، فهذا ما لايوجد له أى تفسير، أتحدث عن السيارات التى زادت أسعارها بشكل جنونى رغم وجودها فى صالات العرض، فالإفراج الجمركى الخاص بها يوضح أنها دخلت البلد قبل ارتفاع سعر الدولار، وقد حقق التجار مكاسب كبيرة، أعتبرها غير مشروعة ولم تحرك الحكومة ساكناً، ألا يعد هذا غشاً مع سبق الإصرار! النموذج الثانى، حينما قررت الحكومة زيادة أسعار الدواء بنسبة 20% مسوقة هذا القرار بأنه فى مصلحة المواطن! استغلت العديد من الصيدليات هذا القرار ورفعت أسعار الدواء فور صدوره و لم تطبق القرار على الأدوية الجديدة و بالتالى حقق هؤلاء مكاسب كبيرة أيضا أراها غير مشروعة، وللأسف لم تحرك الحكومة ساكناً، وتركت المواطن كما الأرجوحة فى أيدى هؤلاء يستنزفونه كما يشاؤون، و كان يمكن للحكومة أن تحدد الزيادة على الأسعار بدءا من تشغيلة دوائية معينة ومن يخالف ذلك ستكون عقوبته كذا. ولكن لماذا؟ فالحكومة مشغولة بما هو أهم من محاربة الغش! لقد كنا فى حاجة ملحة لصدمة الثانوية العامة هذا العام لنعى دروسا مهمة، أولها أن الغش والسماح به كان سبباً فى وجود طبيب «غشاش» قضى على إنسان برىء، و مهندس غشاش كان سبباً فى وجود مخالفات صارخة، .. إلخ. لذا إن أردنا لمجتمعنا نهوضا حقيقيا لابد من قيام ثورة على نظام التعليم الحالى الذى أثبت فشلاً زريعا فى كل مراحله وكان سبباً رئيسياً فى انتشار الفساد الذى نهش مقدراتنا، ثورة تأخذ فى اعتبارها الأهمية القصوى للتعليم كبوابة العبور للمستقبل و قاطرة التنمية المستدامة، و لنتحد حكومة وشعباً حول هذا الهدف، و لكن حتى نحققه جميعاً لا يمكن أن نعفى الحكومة من مسئوليتها إزاء الصدمة الأخيرة مع ضرورة وضع كل السبل التى تحقق تكافؤ الفرص بين الجميع وفق عدالة معصوبة العينين. [email protected] [email protected] لمزيد من مقالات عماد رحيم