لعقود طويلة، ظلت عمليات الغش في الامتحانات، تنحصر في وسائل تقليدية جدا.. في أغلبها، كان الغشاشون يتفننون في كتابة أجزاء من المناهج في أوراق صغيرة جدا، يسمونها «برشام»، ثم يخفون هذا «البرشام» داخل ملابسهم، أو في أحذيتهم، وأحيانا كان البعض، وخاصة البنات، يكتبن البرشام علي أجسادهن.. المرة الوحيدة التي شهدت طريقة غير تقليدية للغش، كانت علي يد إسرائيل التي كانت تذيع عبر إذاعتها، الإجابات النموذجية لأسئلة امتحانات الثانوية العامة، قبل بدء الامتحانات.. حدث هذا عقب نكسة يونيو 1967.. ولكن خلال السنوات الأربع الأخيرة، تغيرت الأحوال بشكل مرعب، حتى صار الخبر المعتاد،طوال أيام امتحانات الثانوية العامة، هو خبر تسريب الامتحان بعد 30 دقيقة من بدايته، وأحيانا يحدث التسريب بعد 15 دقيقة فقط، وفي بعض الأحيان كان التسريب يتم قبل يوم الامتحان ذاته.. وعلي شبكة الإنترنت دشن البعض مواقع خاصة لنشر الامتحانات المسربة،ولنشر إجاباتها النموذجية..وهكذا دخل الغش عصر التكنولوجيا، والسؤال: هل ستستمر هذه الكارثة، أم أن هناك وسيلة للتصدي لها؟. الغش مجرم ومحرم في ذات الوقت، وفي الغالب لا يحتاج إلي معلم، فالشيطان كفيل بأن يفتح أبواب الشر كلها أمام الغشاشين ليبتكروا طرقا جديدا تحقق لهم غشا سريعا وآمنا، ويبدو أن شياطين الغش وجدوا ضالتهم في شبكة الإنترنت لكي يصطادوا أكبر عدد ممكن للسقوط في هذه الرذيلة، والدليل علي ذلك انك بمجرد أن تكتب علي الإنترنت عبارة «أشهر طرق الغش في الامتحان» فإنك ستجد 295 ألف موقع يشرح بالصوت والصورة، وبالتفصيل أحدث ما توصل إليه أبالسة الغش في العالم..وبين فيديوهات الغش ستجد بعضها لا يخلو من طرافة، لعل أكثرها طرافة علي الإطلاق هو فيديو الغش الذي يقدمه طالب مصري اسمه إيهاب المصري والذي يعود إلي عام 2013 ولكنه بالفعل يستحق المشاهدة.. شاهد الفيديو علي بوابة الوفد https://www.youtube.com/watch?v=uN2WAPxhw9w وإذا ما تجاوزت مدارس الغش علي الإنترنت، وبدأت تراقب الواقع ستجد الواقع، أغرب من الخيال.. فالوسائل التي تستخدمها مافيا الغش في مصر غاية في الغرابة، والمثير أن هذه الوسائل متعددة ومتنوعة، والأكثر إثارة أن بعضا من محلات وسط القاهرة تبيع أحدث وسائل الغش، بأسعار في متناول الكثيرين.. وهو ما يعني أن غش الامتحانات استوطن مصر.. وحسب مراقبي امتحانات الثانوية العامة لهذا العام، فإن بعض الطلاب يستخدمون تكنولوجية حديثة لتسريب الامتحانات.. ويقول «محمود - أحد المشرفين علي مراقبي الثانوية العامة بوزارة التربية والتعليم»: مراقبو الثانوية العامة فوجئوا هذا العام بأن بعض الطلاب يستخدمون أجهزة تكنولوجية حديثة جدا، منها أقلام بها كاميرات، و«زراير» قمصان بها كاميرات وفي ظل هذا التطور يصبح التصدي لحالات تسريب الامتحانات أمرا صعبا للغاية. واعترف ذات المصدر بأن بعض مراقبي الامتحانات تورطوا في تسريب ورق الأسئلة بعد دقائق من توزيعها علي الطلاب داخل اللجان، ولكنه شدد علي أن نسبة من قاموا بهذا العمل مقارنة بعدد مراقبي اللجان لا تكاد تذكر.. وقال «عدد مراقبي الثانوية العامة أكثر من 80 ألف مراقب وملاحظ، وتم ضبط 3 أو 4 مراقبين تورطوا في تسريب الامتحانات من داخل اللجان وعدد هؤلاء المتجاوزين لا يكاد يذكر مقارنة بالعدد الإجمالي لمراقبي الامتحانات». وأضاف «الحل الوحيد لمواجهة تسريب الامتحانات والغش الالكتروني هو استخدام أجهزة تشويش علي أجهزة الموبايل داخل لجان الثانوية العامة». أشهر وسائل الغش وبحسب خبراء في الإلكترونيات، هناك وسائل عديدة، يتم استخدامها في الغش.. وأشهر تلك الوسائل كما يقول الدكتور محمد الجندي مدير منظمة أمن المعلومات هي الموبايلات، التي تعد الأكثر استعمالا، حيث يتم نقل الأسئلة عن طريق الموبايل، واستقبال الإجابات عن طريق سماعة صغيرة، مزودة بهوائي صغير لتلقي الصوت بشكل لاسلكي، وتستعمل لتلقي الإجابات الصحيحة من أحد أصدقاء الطالب.. ويضيف الدكتور محمد الجندي: قوائم الغش الإلكتروني تضم أيضا الكاميرات الخفية وهي واحدة من الأساليب المفضلة لطلاب الغش، حيت يتم التقاط صورة لورقة أسئلة الامتحان ويتم إرسالها لشخص خارج اللجان والذي بدوره يقوم بإعادة إرسال الإجابات عن طريق السماعات أو أي وسيلة أخري، يمكن أن تكون قراءة الإجابة عبر ميكروفونات مثبتة بالقرب من لجان الامتحانات، وهناك كاميرات تثبت في أغطية زجاجات المياه المعدنية، وهناك أيضا أقلام مزودة بكاميرات بأحد جوانبها طرف معدني عند جذبه يمكن مشاهدة ورقة صغيرة عليها ملخص أجزاء من كتاب المادة بخط صغير.. ويواصل الدكتور الجندي: توجد ميداليات مزودة بكاميرات، ونظارات بها عدسات عادية، وفي منتصفها كاميرا فيديو لا يمكن رؤيتها إلا بصعوبة شديدة، وفي نهاية النظارة قرب الأذن توجد سماعة لاسلكية متناهية الصغر، وبمجرد النظر إلي ورقة الأسئلة يتم تصوير الأسئلة، وإرسالها إلي شخص خارج اللجنة، هذا الشخص يتولي البحث عن إجابة الأسئلة، ثم يلقن الممتحن عبر الميكروفون المثبت في النظارة هذه الإجابات. كما توجد كاميرات وميكروفونات صغيرة جدا يتم تركيبها داخل مسطرة، أو استيكة، ويرتبط لاسلكيا بأشخاص خارج قاعة الامتحان، حيث يتلقى الطالب من خلاله الأجوبة عبر سماعة أو من خلال شاشة مركبة داخل المسطرة أو الممحاة، وهناك أيضا جهاز صغير الحجم جدا لا يتعدي طوله 3 مليمترات و يعمل بالبلوتوث، يمكنه إرسال الأسئلة واستقبال الأجوبة. وهناك أيضا ساعات ذكية، تمتلك قدرة تخزينية تصل إلى 4 جيجابايت، وشاشة ويمكن تصفح المادة المكتوبة من خلال تمرير الشاشة والانتقال إلى الأسفل أو الأعلى أوتوماتيكيا أو يدويا، وتحتوي الساعة علي زر بالضغط عليه تتحول إلي وضعية الشاشة وبالضغط عليه مرة أخري تتحول إلى وضعية الساعة، فضلًا عن قدرتها علي إمكانية التواصل عبر «الواي فاي».. ومؤخرا تم ضبط كارت يشبه «الفيزا كارد» وبه «كارت ميمورى»، يتم تخزين المعلومات عليه، واستخدامها فى الامتحانات. وأكد الدكتور محمد الجندي أن كل أدوات الغش هذه، تباع في محلات بوسط القاهرة.. وقال: كل هذه الأجهزة يتم تهريبها من الخارج، وأحيانا يتم إخفاؤها وسط أجهزة إلكترونية يتم استيرادها من الخارج، وتباع بشكل سري في محلات بيع الإلكترونيات بوسط القاهرة، وفي الغالب تتراوح أسعارها ما بين 10 و100 دولار، أي حوالي ما بين 75 و750 جنيها. وأضاف: الصين تمكنت من تصنيع أغلب هذه الأدوات وتبيعها بأسعار لا تتجاوز 50 دولارا، وهناك مواقع الكترونية صينية متخصصة في الترويج لأدوات الغش تلك، وتتيح تلك المواقع، إبرام اتفاقيات شراء هذه الأدوات إلكترونيا. المواجهة الإلكترونية.. صعبة وأكد الدكتور محمد الجندي أن مواجهة عمليات الغش إلكترونا أمر ممكن ولكنه مكلف جدا.. وقال: هناك أجهزة كثيرة تواجه الغش الإلكتروني ولكنها غالية الثمن، فمثلا يوجد جهاز لكشف الموبايلات والأجهزة الإلكترونية، وأسعاره بعشرات الآلاف من الدولارات، وهو ما يجعل استخدامه في مصر صعبا للغاية، إن لم يكن مستحيلا خاصة أن لجان الثانوية العامة في مصر بالآلاف وهو ما يعني أننا سنحتاج إلي الآلاف من هذه الأجهزة وهو ما يفوق قدرة موازنة وزارة التربية والتعليم من ناحية كما أن استخدام هذه الأجهزة يحتاج إلي موافقة جهات أمنية عديدة. وأضاف: قطع الاتصالات في محيط لجان الامتحانات، يمكن أن يكون له دور إيجابي في مواجهة الغش الإلكتروني، ولكن تطبيق هذا الأمر يكاد يكون مستحيلا أيضا، خاصة أنه سيحرم الكثيرين من خدمة الاتصالات وهو ما سيضع شركات الاتصالات في مرمي قضايا تعويضات بمبالغ ربما تفوق قدرتها المالية. وأبدي «الجندي» دهشته من صمت وزارة الاتصالات علي أزمة الغش في الامتحانات.. وقال: كان يجب أن تتعاون وزارة الاتصالات مع وزارة التربية والتعليم في مواجهة الغش، خاصة أنه كارثة إلكترونية في الأساس. وأضاف: في ظل ارتفاع تكلفة المواجهة الإلكترونية لظاهرة الغش، فإن أفضل حل، هو أن تلجأ وزارة التربية والتعليم، إلي المقولة الشهيرة «وداويني بالتي كانت هي الداء»، أي أن تقوم بتسريب أسئلة خاطئة حتى تشتت انتباه الغشاشين. ومن جانبه أكد الدكتور ياسر الدكروري رئيس الجامعة المصرية للتعليم الإلكتروني أن الغش الإلكتروني في الامتحانات يحتاج إلي حل حاسم.. وقال: الغش موجود في كل دول العالم ولكنه متفش في مصر بصورة كبيرة، والسبب الأساسي في ذلك يعود إلي صراع الطلبة للحصول علي أعلي درجات في امتحانات الثانوية العامة باعتباره امتحانا مصيريا يحدد مستقبل جميع الطلاب، ولهذا نجد الغش في الثانوية العامة أو الأزهرية هو قمة أنواع الغش في الامتحانات ويفوق كثيرا الغش في الجامعات. ويضيف: مواجهة سعار الغش يستلزم اتخاذ خطوتين علي وجه السرعة، أولها منع دخول الموبايلات أو أي أجهزة أخري إلي لجان الامتحانات، ومعاقبة كل من يخالف ذلك بالحرمان من الامتحان حتى ولو لم يستعمل هذه الأجهزة، وهذا الأمر مطبق في المركز الثقافي البريطاني بالقاهرة، ففي أي اختبارات يعقدها المركز يتم منع إدخال الموبايلات وغيرها من الأجهزة الالكترونية، ومن يضبط معه أي من تلك الأجهزة داخل لجنة الامتحان يتم حرمانه من الامتحان حتى لو لم يكن يستخدمها. وواصل الدكتور ياسر الدكروري: الخطوة الثانية لمواجهة الغش في الثانوية العامة هو ألا نكتفي بمكتب التنسيق كفيصل وحيد في إلحاق طلبة الثانوية العامة بالجامعات هو أن تجري الكليات المختلفة اختبارات للطلاب الذين رشحهم لها مكتب التنسيق، وليس هناك ما يمنع استبعاد بعض هؤلاء الطلاب إذا كان مستواهم العلمي لا يتناسب مع الدرجات التي حصلوا عليها في الثانوية العامة. من غشنا ولو تركنا المواجهة التكنولوجية، وبحثنا عن حلول أخري للتصدي للغش، سنجد رجال الدين يؤكدون أن الحل هو تذكير الطلاب دائما بالحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول محمد صلي الله عليه وسلم «من غشنا فليس منا».. ويري الشيخ صلاح أحمد - من مشايخ الأزهر الشريف - إذا نجحنا في أن نزرع في نفوس الطلاب أن الغش أحد الكبائر التي تخرج صاحبها من الدين، فإن ذلك كفيل بأن ينفر منها جميع الطلاب. فيما يشير المهندس يحيي حسين عبد الهادي مدير مركز إعداد القادة السابق إلي أن الحل في مواجهة الغش هو تطبيق ما كان مطبقا في الكلية الفنية العسكرية، وقال: «أي طالب يغش في الامتحان يتم تأخيره عامين دراسيين، فإذا كان في السنة الثالثة مثلا يتم إعادته إلي الفرقة الأولي.. وهكذا يترسخ لدي الطلاب يقينا أن الرسوب في الامتحان أفضل من الغش».