أحدث الخروج البريطانى من الاتحاد الاوروبى زلزالا كبيرا فى جسد الاتحاد منذ نشأته وما يتبعه من توابع سوف يكون لها تأثير كبير على مستقبله الاقتصادى والسياسى, ولما يحمله الانسحاب البريطانى للعديد من الدلالات والتداعيات المهمة: أولا: شكل الخروج ضربة قوية لفكرة الاندماج والتوحد التى قامت عليها أوروبا بعد تجربة التناحر والصراع فى الحربين العالميتين الأولى والثانية, وجاء الاندماج ليمثل نموذجا فى التكامل والتعاون الاقتصادى كمدخل للاستقرار وتحقيق السلام بين شعوب القارة المتباينة الأعراق واللغات والثقافات وصهرها فى بوتقة وكتلة واحدة لقيادة العالم سياسيا واقتصاديا, وكان من توابع الزلزال البريطانى تصاعد النزعات الانفصالية التى تقودها التيارات اليمينية المتطرفة فى العديد من دوله مثل فرنسا وهولندا وأسبانيا والتهديد بانفراط عقده, ورغم محاولات التماسك والحفاظ على الاتحاد من قبل ألمانياوفرنسا إلا أن الخروج البريطانى لن يكون الأخير, خاصة مع تصاعد وتنامى الفكرة القومية والعودة إلى السيادة بعد أن طغى الاتحاد وقوانينه ومؤسساته على سيادة الدولة الوطنية. ثانيا: انسحاب بريطانيا كان كاشفا لحجم التحديات والمشكلات الاقتصادية التى يعانى منها الاتحاد خاصة فى العقد الأخير وسعى إلى ترميمها دون معالجتها جذريا, لكنها مشكلات هيكلية ترتبط بالتعافى الاقتصادى ومعدلات النمو ومصير اليورو, ولعل الأزمة الطاحنة التى شهدتها اليونان وهددت بخروجها لولا حزمة المساعدات الأوروبية للبقاء عليها, وكذلك الأوضاع الاقتصادية الصعبة فى الدول القائدة مثل إسبانيا وفرنسا, أوضح صعوبة استمرار الاتحاد بصيغته الحالية. ثالثا: ساهم توسع الاتحاد بشكل كبير فى العقدين الأخيرين وضم دول أوروبا الشرقية وبعض دول الاتحاد السوفيتى السابق حتى وصل إلى 28 دولة, فى إضعافه بشكل كبير, حيث أغرى النمو الاقتصادى الكبير الدول القائدة مثل ألمانياوفرنسا إلى ضم هذه الدول لفتح أسواق جديدة وجلب العمالة الوفيرة والرخيصة للقارة العجوز, لكنه فى ذات الوقت شكل عبئا كبيرا أرهق ميزانيتها مع تعثر الكثير من تلك الدول مثل اليونان, إضافة إلى تباين النظم الاقتصادية ومعدلات النمو ومستويات المعيشة لدول الاتحاد، مما جعل الدول الكبيرة مثل بريطانيا تسعى للتخلص من هذا العبء, ولذلك كان السبب الأساسى وراء تصويت غالبية البريطانيين بالانسحاب هو أن الاتحاد كفكرة اقتصادية اصبح عبئا كبيرا على بريطانيا وأنها ستكون أفضل اقتصاديا خارج الاتحاد. ولذلك لعبت الاعتبارات الاقتصادية المتمثلة فى المساهمة البريطانية الكبيرة فى ميزانية الاتحاد وزيادة حركة الهجرة والعمالة من شرق أوروبا إلى بريطانيا وتقديم المساعدات والرعاية الاجتماعية لها, إضافة إلى تقييد القوانين الأوروبية لحركتها, دورا فى الخروج رغم التبعات الاقتصادية السلبية فى المدى القصير وأبرزها تراجع قيمة العملة الانجليزية وفقدان ملايين الوظائف فى الاتحاد وهروب رؤوس الأموال والاستثمارات الأوروبية إلى خارج بريطانيا, لكن على المديين المتوسط والبعيد ربما ستكون أفضل اقتصاديا بعيدا عن الاتحاد خاصة أن تشابكها الاقتصادى معه كان محدودا فلم تزد وارداتها من الاتحاد على 4% وبلغت صادراتها 44% أى أن الاتحاد لم يكن الشريك التجارى الأول لها. وخروج بريطانيا لا يعنى انفصالها تماما عن الاتحاد فأمامها خيارات متعددة أبرزها الانضمام للمنطقة الاقتصادية على غرار النرويج والتمتع بحرية الدخول للسوق الأوروبية, أو إبرام اتفاقية تجارة ثنائية على غرار سويسرا, أو توقيع اتفاقية تجارة حرة مع منع البريطانيين من حرية التنقل داخل دول الاتحاد الأوروبى. رابعا: وضع بريطانيا داخل الاتحاد طيلة 43 عاما أشبه بنصف عضوية, فلم تحظ بالعضوية الكاملة, حيث أبقت على عملتها الاسترلينى ولم تدخل ضمن الاتحاد النقدى لليورو, كما أنها لم تطبق نظام الشينجن, وهو ما جعلها أقل نفوذا فى توجيه تفاعلات الاتحاد الاقتصادية, وأصبحت كتابع لدول الاتحاد النقدى القائدة مثل ألمانياوفرنسا, وهو ما تصادم مع النزعة القومية البريطانية ومع وضعها الاقتصادى المتميز كمركز مالى عالمى ومع تاريخها كدولة عظمى. خامسا: إن التصدع الاقتصادى للاتحاد الأوروبى سواء بأزماته الاقتصادية المزمنة أو بانسحاب أبرز أعضائه سوف ينعكس بالضرورة على قوته السياسية وتأثيره فى النظام الدولى مع تصاعد القوى الكبرى مثل روسيا والصين, وكذلك تصاعد دور التكتلات الاقتصادية الكبرى الأخرى مثل الآسيان, ورغم أن الاتحاد كان دوره السياسى محدودا خاصة فى أزمات الشرق الاوسط وثورات الربيع العربى وكان تابعا بشكل كبير للدور الأمريكى, ولم يترجم قوته الاقتصادية إلى قوة سياسية نتيجة للسياسات الخارجية المتعددة لدوله, إلا أن الانسحاب البريطانى سوف يضعف بشكل كبير من دوره فى السياسة الخارجية وفى مواجهة التهديدات والتحديات الأمنية الخارجية سواء من جانب روسيا أو من تبعات أزمات الشرق الأوسط مثل خطر الإرهاب ومشكلة تدفق ملايين اللاجئين إلى أراضيه والتى كشفت حجم الانقسام بين دوله. الاتحاد الأوروبى كتكتل اقتصادى ناجح استمر لعقود عديدة, يواجه تحديات جوهرية ويقف فى مفترق طرق, فإما أن يحدث قادته مراجعات هيكلية وسريعة لنمط إدارته وتفاعلاته الاقتصادية وتقييم سياساته الاقتصادية للحفاظ على تماسكه واستمراره, وإما الاستمرار فى وضعه الحالى وهو ما قد يهدد بانفراطه وتفككه. لمزيد من مقالات د . أحمد سيد أحمد