الواقعة بدت فى ظاهرها بسيطة وعادية للغاية، ولا تثير انزعاجا مطلقا لكونها تتكرر عشرات المرات يوميا فى أماكن شتى من بلدنا، لكن ما استدعى تأملها وتحليلها تحليلا دقيقا، وإطلاق صفارات الإنذار والتحذير، أن أحداثها جرت فى حى الأسمرات الذى افتتحه الرئيس عبد الفتاح السيسي، منذ أسابيع قليلة، والذى سيؤوى العديد من الأسر التى كانت تعيش فى مناطق عشوائية مقطوعة الصلة بالآدمية والحياة الكريمة فى أدنى صورها. تتلخص الواقعة فى أن مجهولين حطموا حدائق الأطفال فى الأسمرات، واختلفت الروايات حول هويتهم، بعض السكان قالوا إنهم بلطجية، فى حين أكد رئيس الحى أنه نتيجة « شغب عيال»، وفى اليوم التالى تم تنظيم زيارة ميدانية لممثلى بعض وسائل الإعلام، لإطلاعهم على الاحتياطات والتدابير الأمنية بالحي، لدحض أقوال دخول بلطجية. بعدها كشف محمد سويلم مدير إدارة الشباب والرياضية بمحافظة القاهرة، عن أن سرقة فوانيس الإضاءة وكراسى المدرجات فى ملعب الأسمرات وقعت قبل تسلم المحافظة الملاعب. هنا أنا لست معنيا بالتفاصيل الفرعية، وتقديم الأعذار والمبررات ورسائل الطمأنة الصادرة من الجهات الرسمية بأن كله تمام ولا داعى للقلق، وكل شيء تحت السيطرة الكاملة، فما يشغلنى حقا هو أن الحادث وقع بالفعل، ولم ينكره أحد، وذلك لو تعلمون هو الطامة الكبري. فمشروع الأسمرات بنى على فلسفة واضحة وضوح الشمس، هى أنه سيكون نقطة نظام وتحول فى معركتنا المصيرية مع العشوائيات وما يتبعها من مظاهر وسلوكيات وثقافة تغلغلت حتى النخاع فى جسدنا الوطني، وأنه سيحول قاطنيه إلى مواطنين يعون جيدا حقوقهم وواجباتهم ومسئولياتهم، وأضع مئات الخطوط تحت كلمة مسئولياتهم، وأولاها المحافظة على المكان الذى انتقلوا إليه. فإن كان قد حدث ذلك والحى لم يتم تسكينه بكامله بعد، فكيف سيكون الحال عندما يمتلئ ويمرح فى جنباته الواسعة الآلاف من أهلنا الذين كانوا يقيمون فى الدويقة وغيرها؟ فنحن لا نود أن يتحول الأسمرات فى مقتبل الأيام إلى نسخة من بيئة وعادات المساكن الشعبية، فنسبة كبيرة من ساكنيها خلت تصرفاتهم من الإحساس بالمسئولية، وهم معذورون لحد ما فى تبنيهم هذا المنهج، لأنهم كانوا آنذاك عرضة للتهميش، والحرمان، والعزلة، والاهمال، والافتقاد للخدمات الأساسية من ماء، وصرف صحي، وعلاج. كان طبيعيا أن يسود الاحتقان والغضب والمرارة أوساط هؤلاء المهمشين الذين قابلوا الإهمال بالإهمال، والإعراض بالاعراض، وسن كل واحد منهم قوانينه ومفاهيمه الخاصة، وباتت العشوائية العملة المتداولة بقوة فى أرجاء المدينة. العشوائية كانت مبررة ومفهومة حينما كانت الدولة مهملة ومقصرة فى حق شرائح عريضة من الشعب، أما الآن فلا محل لها من الإعراب، فالدولة أفاقت من غيبوبتها الطويلة، وتحاول تعويض ما فاتها بقدر استطاعتها، مع العلم بأن مشوارها ما زال فى بداياته وأمامها الكثير لتفعله، ومن ثم فالمنطق يقول إن المسئولية تقابل بالمسئولية، والحرص بالحرص وليس بالتخريب. نعود لما حدث بالأسمرات لنقول إن المشروع واجهة حضارية مبهجة واجبنا صونه والذود عنه بقوة، وإخضاع من تثبت مشاركته فى تخريبه للجزاء المستحق بسيف القانون، فالتغاضى عن حادث كتحطيم حديقة الأطفال سيتبعه ما هو أفدح وأوسع نطاقا وعنفا، وعلى محافظة القاهرة الالتفات لدورها ليس فقط بتنظيم أنشطة رياضية فى الحى، وإنما باعداد دورات لتأهيل السكان الجدد للعيش فيه. ولن يعيبنا أن نشرح ونبين لهم أن ما كان مستساغا ومتاحا فى مساكنهم القديمة لن يكون مقبولا فيه، فهم مثلا اعتادوا لعب الكرة فى الشارع، والأماكن الخالية، ولدى نشوب مشكلة أو اعتراض على هدف، أو إصابة أحد اللاعبين تندلع العركة، وتستخدم فيها ما تقع عليه أيديهم من أدوات، ولا مانع من العنف للتنفيس عن الغضب والامتعاض. إن المغزى الأساسى من مشروعات كالأسمرات ليس مقصورا على نقل بشر من موقع لآخر، بقدر ما هو تبديل مفاهيم وأفكار عشوائية، والتخفيف من وطأة شعور طبقات مهمشة ومعزولة بالمجتمع بالتفاوت الطبقي، وأن الأغنياء وحدهم ينعمون بالمزايا والحياة الرغدة الجميلة، والحدث برمته يلفت نظرنا لأمرين وبالأحرى إلى نقيصتين، أولاهما أننا لم نغرس بعد فى مواطننا فضيلة وثقافة حماية مواضع الجمال والمنفعة العامة، فالزحف الخرسانى والبناء العشوائى الذى يخاصم أبسط قواعد الجمال قلص المساحات الخضراء، ومن يعثر على شجرة يتحايل لقطعها، كما أن عيوننا وأذهاننا تآلفت مع القبح ولم يعد غريبا على الكثيرين، ولعل ذلك يوضح إلى حد بعيد شيوع ظاهرة «الكمبوند», فأنت تبحث عن معزل عن القبح والافعال العشوائية، التى باتت سمة واضحة فى أفلامنا، وأغانينا، ومسلسلاتنا بحجة نقل الواقع المعيش. ثانية السلبيات أن الأحياء لا تقوم بمهامها بالصورة الصحيحة، وهو ما يترك مساحات شاغرة ترتع فيها العشوائية، وإن استيقظت من سباتها العميق تكون الفأس قد وقعت فى الرأس، وحينها تجد الدولة نفسها وجها لوجه مع غول كبر وأضحى له أنياب يغرسها فى مفاصل المجتمع، ويعوق حركته وتقدمه، فمدننا اليوم محاطة باحزمة من العشوائيات وتوابعها المسببة لظواهر ما أنزل الله بها من سلطان، فلا تكرروا الأخطاء فى الأسمرات. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي